الأميركي والإيراني وجهاً لوجه اليوم في بغداد... يعودان الى مفاوضات علنية، عنوانها الكبير أمن العراق، لكن ما تحت الطاولة يتجاوز الحروب الأهلية وحرب «القاعدة» على الأميركيين والعراقيين في ذلك البلد. عين الأميركي على إنقاذ ما قد يكون فرصة اخيرة لإدارة الرئيس جورج بوش لإبعاد خطر مساءلة الأخير في الكونغرس حول حرب خاسرة شُنت بذرائع زائفة.

اما عين الإيراني فتبدو مفتوحة أكثر على اعتبارات شتى، في الفصل الجديد من الصراع بين واشنطن وطهران على اقتسام النفوذ في الخليج والشرق الأوسط. وإذا كان من السذاجة الميل نحو تصديق «غيرة» ايران على وحدة العراق، وأمنه واستعادة قوته واستقراره الذي سيشكل اكبر مدخل لإعادة بناء قوة لن تثير سوى القلق لدى جارته على الضفة الأخرى من الخليج... فلا يمكن إلا تصور خفة بوش وإدارته إذا توهما بأن الجمهورية الإسلامية إنما ترسل فريقها المفاوض الى بغداد، جزعاً من إعادة واشنطن الاعتبار الى الخيار العسكري معها.

صحيح ان حشد الولايات المتحدة نحو 150 طائرة حربية في مياه الخليج، رسالة واضحة الى طهران، فحواها ان وقت المناورات السياسية والتلاعب بمصالح الاحتلال في العراق بدأ ينفد، لكن الصحيح ايضاً ان ايران ما زالت تتكئ على حسابات عسيرة لأي حرب أخرى قد يقدم بوش على خوضها يائساً.

تحت طاولة المفاوضات «الصغيرة» بين الأميركي والإيراني في بغداد، حسابات البرنامج النووي الإيراني، ونفوذ طهران في ملفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والصراع في لبنان... مهما أنكرت واشنطن وأصرّت على ان تطويع اصابع «الحرس الثوري» في العراق لن يُكافأ بجزرة تساهل حيال تخصيب اليورانيوم، وما تسميه إدارة بوش «دعم الإرهاب في فلسطين ولبنان».

بغداد هي مجرد بداية في حوار «عض الأصابع» الذي قد يمهد لمفاوضات «الصفقة» الكبرى بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة، والتي يُعتقد بأنها تأخرت كثيراً لسببين: ان واشنطن لا يمكنها الاعتراف بنفوذ إيراني واضح في العراق، يعزز مخاوف دول المنطقة من تقسيمه، كما يبدو مستحيلاً ان تترك لحكومة الرئيس محمود احمدي نجاد تسجيل الانتصار الكبير في معركة البرنامج النووي.

وعلى طريق المفاوضات العسيرة في ما تبقى من ولاية بوش الثانية، لا ترى طهران ضيراً في مواصلة سياسة حرق المراحل، في العراق (لتوريط بوش أكثر) وتخصيب اليورانيوم (لتقوية برنامجه) والتحكم بمزيد من الأوراق في صراعات الشرق الأوسط، والصراع عليه.

بديهي بالتالي ان يحاول نجاد في لقاء بغداد ان يلوّح لبوش بجزرة تسهيل مهمة الاحتلال في العراق، من خلال إفهامه «واجباته» كما قال المرشد خامنئي، ليكسب تراخياً اميركياً في مشروع العقوبات الإضافية المتوقعة، رداً على «تمرد» البرنامج النووي الإيراني. وإن لم يكن نهجاً جديداً لعب طهران على وتر شق وحدة الموقف الأوروبي – الأميركي المتشدد حيال البرنامج، كما في رسالة «الغزل» التي وجهها علي لاريجاني الى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في مطلع عهده، فالمثير في هذه الرسالة ان طهران تعرض على باريس مساعدتها لاستعادة مواقع نفوذ خسرتها في المنطقة، منذ انكفأ الدور الفرنسي امام وطأة «الزحف» الأميركي عسكرياً وسياسياً.

اما برنامج العرض الإيراني فتتبدى ملامحه في:

 إغراء ساركوزي بطلب دور ريادي له، عبر اقتراح توسطه في أزمة الملف النووي. - استنهاض دور لفرنسا في الشرق الأوسط، بعرض كعكة «تعاون مثمر» مع الجمهورية الإسلامية. - مشروع من أربع نقاط للبنان يخفف على سورية وطأة المحكمة الدولية بالفصل السابع، مستعيضاً عنها بـ «إطار دولي»، ويكشف للمرة الأولى بوضوح، وعلى لسان لاريجاني، رغبة طهران في أن ترث النفوذ السوري في لبنان، وإلا ما معنى اقتراحه دعماً فرنسياً – إيرانياً لمرشح «إجماع» للرئاسة اللبنانية؟...

وإن كان تحصيل حاصل عرض حل لمسألة سلاح «حزب الله» بضم عناصره الى الجيش، يجدر عدم الاستهانة بما تشي به النقاط الأربع من رغبة في طي عقود التوافق الأميركي – السوري في لبنان، من بوابة عرض الشراكة الإيرانية – الفرنسية.

مجرد حرق مراحل؟ بغداد مجرد بداية، ولعل لاريجاني نسي أن اول ما نطق به ساركوزي بعد فوزه في الانتخابات، إشهار حاسم لرغبته في تمتين «التحالف» مع واشنطن.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)