قبل ايام قليلة صدر تقرير مركز «تشاتام هاوس» البريطاني المتخصص بالعلاقات الدولية حول العراق، فأكد ان العراق مهدد بالانهيار والتفتت بفعل «حروب اهلية وحركات تمرد»، وان «التقاتل الطائفي والعرقي والصراع على السلطة، يهدد وجود الدولة في شكلها الحالي» مما يجعل «العراق مهدداً بالانهيار والتفتت الى عدة كيانات منفصلة».

وحظي التقرير الذي اعده للمركز الباحث غاريث ستانسفيلد باهتمام واسع في اوساط العراقيين والمعنيين بالشأن العراقي، لأنه يعكس بعض ما صار اليه واقع العراق من احتمالات في ضوء العديد من المعطيات الواقعية في العراق الحالي، والتي تتغذى من ثلاثة عوامل اساسية، اولها الاحتلال الاميركي – البريطاني، والثاني تدهور مستوى النخبة السياسية العراقية، والثالث توسع حضور وفاعلية جماعات العنف المسلح من المليشيات التي تغطيها اطراف السلطة الى قوات القاعدة وتوابعها الى عصابات الجريمة المنظمة، وتتشارك هذه العوامل في ايصال العراق الى الانهيار الشامل.

فالاحتلال يتابع سياسة القوة والاخضاع وتدمير مقدرات وامكانات العراق ونهب مايمكن دون ان يقدم اية رؤية لخلاص العراق واستعادة عافيته وفق الوعود التي سبقت الغزو، فيما تعجز النخبة السياسية العراقية عن التفكير بمستقبل العراق الواحد، فيندفع كل قسم منها باتجاه هويته مادون الوطنية بالعودة الى هويات اثنية او دينية او طائفية او جهوية، وربما ادنى مما سبق، ويعتبر كل طرف، ان تعزيز قوة تلك الهوية هو الهدف الاول، ولا يتورع اعضاء بارزون في نادي النخبة العراقية عن استخدام الجماعات المسلحة في صراعاتهم مع غيرهم ومن اجل الوصول الى اهدافهم السياسية، فيما تؤدي اعمال عصابات الجريمة المنظمة دوراً مكملاً للعاملين السابقين من خلال اشاعتها الخوف وعدم الامان في العراق، وتساهم في دفع العراقيين نحو تبني اية خيارات تبعدهم عن الرعب والموت المعممين، بما في ذلك خيار تفتيت العراق.

وللاسف الشديد، فان مايجري في العراق، يرسم مستقبلاً محتملاً لاغلب دول المنطقة، اذا استمرت التطورات في مساراتها الحالية، ذلك ان ثمة تماثلا وتشابها في ظروف العديد من دول المنطقة مع الحال العراقي، وان يكن بدرجات اقل.

ففي الشرق الاوسط اليوم، تتصاعد حدة التدخلات الدولية والاقليمية، ولاسيما الاميركية - الاسرائيلية والتي غالباً ما تتجاوز التدخلات السياسية والاقتصادية لتأخذ شكل الضغوطات والتهديدات بأعمال عسكرية وسط احتمالات دعم التدخلات بقرارات من مجلس الامن الدولي استناداً الى الفصل السابع من الميثاق، وثمة امثلة تتفاعل في هذا السياق على نحو ما هي عليه ازمة دارفور في السودان، ومثلها ازمة ملف ايران النووي، وازمة العلاقات السورية – اللبنانية، وفي جميع الحالات، فان التدخلات الاقليمية والدولية، تستند بالاساس الى مصالح القوى المتدخلة قبل اية مصالح لقوى ودول اخرى.

والنخبة السياسية الشرق اوسطية سواء في السلطة او المعارضة -ولو بسويات مختلفة وبمسؤوليات متفاوته - تتسارع في تدهور مستوياتها الفكرية والسياسية، وتتردى في مستوى تحملها للمسؤولية، وتعتمد سياسة الانقسام والتقسيم، وتوجه كل سياساتها بالتركيز على موضوع الاحتفاظ بالسلطة، او الوصول اليها أكثر من أي قضية اخرى، واستخدام كل الوسائل والاساليب لتحقيق اهداف مرحلية وتفصيلية حتى لو اقتضى الامر التفاعل مع تدخلات اقليمية ودولية من اجل اخضاع الاطراف الاخرى في الداخل، او اجبار اطراف في الجوار على قبول اهداف او سياسات معينة. والامثلة على حقيقة ضعف وتدهور النخب السياسية في الشرق الاوسط كثيرة، وامثلتها موجودة في ايران وفلسطين وسورية ولبنان والسودان وغيرها.

ويشهد العديد من دول الشرق الاوسط عمليات عنف مسلح، لا يمكن اعتبارها بمثابة مؤشر على وجود جماعات مسلحة فقط، بل انها تمثل سعي الجماعات المسلحة الى تحقيق اهداف سياسية من خلال القوة والارهاب رغبة في ان يتم بنتيجتها اعادة ترتيب اوضاع البلد المعني بطريقة تختلف عما هو عليه حالياً، وهو امر يمكن ان يتضمن تفتيتاً او تقسيماً، حيث لدى معظم البلدان مشاكل في نسيجها السكاني.

ان التفسخ الذي يصيب العراق ويأخذه نحو التشرذم الى كيانات اثنية ودينية وطائفية، والى صراعات داخل تلك التكوينات، أخذت تتوضح ملامحها، هو مثال فج وصارخ لما يمكن ان يصيب بلداناً اخرى تتواصل تفاعلاتها باتجاه الانفجار، فمن يدري كيف ستكون صورة لبنان اذا انفجرت ازمته الداخلية على مداها، وكيف سيتطور واقع الحال الفلسطيني في ظل الاقتتال والتدهور الامني والحياتي الحالي، وما هي صورة ايران بعد حرب اميركية – اسرائيلية محتملة عليها، وكلها مجرد امثلة؟

ورغم ان مواجهة احتمالات تفسخ المنطقة هي مسؤولية نخبها السياسية ولاسيما النخب الحاكمة، فان مهمة كهذه لا بد ان تتشارك فيها اطراف اخرى بما فيها اطراف محلية واقليمية ودولية، لان تفسخ الشرق الاوسط سوف يترك اثاراً خطيرة مدمرة وواسعة، ليس على بلدان المنطقة وشعوبها فقط، وانما على ما يتعداها من دول وشعوب، يمكن ان تقع ضحية مشاكل بينها اندفاع موجات من المهاجرين الجدد اليها هربا من مناطق الدمار، وضرب انتاج وتدفق النفط الذي هو ضرورة للاقتصاد العالمي، وتمدد النشاط الارهابي الى اقصى الحدود تحت ذريعة المسؤولية الدولية عما لحق المنطقة من دمار وخراب.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)