أكدت المحادثات الأميركية - الإيرانية (28 الشهر الماضي) اعتراف واشنطن بدور لطهران في العراق، والخليج العربي أيضاً. كانت المحادثات «ناجحة وايجابية جداً»، على ما وصفها السفيران رايان كروكر وكاظمي قمي، وخطوة أولى لبناء الثقة بين الطرفين.

ايجابيتها بالنسبة إلى إيران أن الولايات المتحدة اضطرت الى التراجع عن موقفها المتصلب، وتهديداتها بإسقاط النظام الإسلامي بالقوة، من دون أن يقدم «محور الشر» أي تنازل يذكر، فطهران ليست مضطرة إلى ذلك، لأسباب كثيرة، أهمها أنها تخوض معركتها على الآخرين وعلى أرض الآخرين، وقد تحولت إلى حرب استنزاف لعدو الأمس المهزوم (العراق) وعدو اليوم (الشيطان الأكبر) الغارق في المستنقع ويطلب النجدة.

الايجابيات بالنسبة إلى الولايات المتحدة أنها لن تكون مضطرة إلى خوض حرب أخرى، بعد ما تكبدته، وبعدما اقتنعت بعجزها عن إدارة العالم منفردة. وبما أنها تخطط للبقاء طويلاً في العراق، على ما أعلن وزير الدفاع روبرت غيتس، فمن الأفضل لها أن يكون ذلك من خلال اتفاقات مع المحيط، كي تضمن سلامة قواتها، وحرية شركاتها في العمل والحركة للسيطرة على ثروات البلاد ووضع بغداد تحت وصايتها الدائمة. ألم يكن هذا هدفها من الحرب وإطاحة النظام العراقي؟!

أما الهدف المهم الآخر الذي سعت إليه واشنطن فهو تحييد العراق عن الصراع العربي - الإسرائيلي، وإبعاده عن أي تحالف عربي قد ينشأ في المستقبل. تحقق لها ذلك بتقسيمه الى دويلات عاجزة عن التضامن مع بعضها بعضاً، متناحرة ومتصارعة على هويته. ولا ضير في أن تكون هي ضامنة مصالح الأكراد مقابل ضمانة إيران لمصالح الشيعة، وضمانة دول أخرى لمصالح السنّة. وكل ذلك على حساب المصلحة الوطنية الشاملة، تحت شعار الديموقراطية والحرية التي ستكون مثالاً للشرق الأوسط الجديد!

وهذا ما هو حاصل في لبنان الآن. فالصراع على الهوية وتناحر الطوائف وتمسكها بمكتسباتها منعها من استثمار انتصار عام 2000 حين انسحبت اسرائيل من الجنوب من دون قيد أو شرط، كما منعها من استثمار هزيمة الدولة العبرية في حرب تموز (يوليو) الماضي في بناء دولة قوية قادرة وضامنة لمصالح شعبها كله، وتحول الانتصارات الى هزيمة سياسية مدوية، تكاد ان تتحول بدورها الى حرب اهلية. في هذا المعنى تلبنن العراق. أو هما يتساويان في بناء فيديرالية الطوائف والمحافظة على مصالحها بالاستقواء بالخارج حتى لو كان اسرائيل.

اصبح واضحاً ان الولايات المتحدة تنتظر نتائج محادثاتها مع ايران حول العراق كي تخوض مثلها مع سورية، ممهدة لذلك بزيارات على مستوى مشرعين، وبتطمينات الى اللبنانيين ان الأمر لن يكون على حسابهم، ولن يكون من خلال تقاسم النفوذ مع دمشق.

الواقع ان واشنطن، بتوجهاتها الجديدة، قسمت المنطقة الى قسمين: الأول يتكون من العراق ومحيطه، والثاني يتكون من لبنان ومحيطه. ما يهمها من المنطقة الأولى هو استتباب الأمن. وخلق حالة سلام مع ايران لتضمن وجودها العسكري والسياسي. وهذا جوهر المحادثات، ومعنى تقاسم النفوذ بين الطرفين. وما يهمها في المنطقة الثانية إبعاد دمشق عن حليفها الايراني، وبالتالي حليفها اللبناني، أي «حزب الله». والانخراط معها في عملية سياسية تقتصر على الوضع العراقي.

انطلاقاً من هذا التخطيط الأميركي أعطت واشنطن ضوءاً أخضر للحكومة الاسرائيلية لإجراء مفاوضات مع سورية («هآرتس» 24/5/2007) شرط ان تقتصر على مستقبل هضبة الجولان وان يبتعد الطرفان عن مناقشة المسألة اللبنانية، أو المسألة العراقية، لأن ذلك من شأن الإدارة الأميركية وحدها و «كي لا يشعر السوريون بأن عزلتهم بدأت تنحسر».

لكن الأميركيين يخططون وينفذون، آخذين في الاعتبار ردود فعل قد تكون غير واقعية، مثلما حصل معهم خلال احتلال العراق، والتهديد بغزو ايران وسورية. وقد علمتنا التجارب ان المخططات المحبوكة جيداً على الورق، تصبح كارثة حين اصطدامها بالواقع. فماذا لو قبلت ايران بتقاسم النفوذ في العراق، وأصرت على تحالفها مع سورية؟ وماذا لو بدأت اسرائيل مفاوضات مع دمشق ولم يتوصل الطرفان الى اتفاق أو طالت المفاوضات؟ وماذا لو اندلعت انتفاضة جديدة في فلسطين، او حرب مخيمات في لبنان؟ أو ما العمل إذا انهار النظام اللبناني؟

كل هذه الأسئلة تحمل في طياتها اجابات مفادها ان المنطقة في العصر الأميركي مقبلة على حروب وتحولات قد يكون العراق نموذجها الأمثل. ولبنان نموذجها الثاني.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)