يبدو أن إدارة الرئيس بوش والأغلبية "الديمقراطية" في الكونجرس الأميركي غارقان في مستنقع من الفوضى المنذرة بأوخم العواقب في العراق. فقد أطلقت الإدارة الأميركية خطتها للرفع من عديد القوات المسلحة كرد مناسب، من وجهة نظرها، على لجنة بيكر التي لم تكن سوى محاولة يائسة من الرئيس جورج بوش الأب (والتي رفضها الابن بطبيعة الحال) لانتشال ابنه والبلاد من الورطة العراقية التي غاصا فيها. والواقع أنه لا أحد، ما عدا بعض الحمقى في صفوف "المحافظين الجدد"، كان يؤمن حقاً بأن خطة الرفع في عدد القوات الأميركية ستنجح، وهي ليست سوى مناورة لتضليل الرأي العام الرافض للحرب والمطالب بسحب القوات من العراق. فالخطة في جوهرها لا تختلف كثيراً عن الجهود السابقة للإدارة الأميركية التي حاولت فرض حل عسكري في العراق. ولن يسهم الانتظار لفترة أطول -حتى يعلن الجنرال "ديفيد بيتراوس" تقييمه لنتائج الخطة بحلول شهر سبتمبر المقبل- سوى في تمديد حالة التردي في بلاد الرافدين، لاسيما في ظل الاعتراف الضمني للإدارة الأميركية بالفشل، وظهور مجموعة من الأهداف والمبادرات المتضاربة التي توحي ليس فقط بالتباس المواقف، بل أيضاً بالفوضى العارمة التي تضرب العراق.

لذا لم يكن غريباً أن يبحث البيت الأبيض عن "قيصر" للحرب في أفغانستان والعراق، على رغم الأعباء الثقيلة التي سينوء تحت عبئها صاحب المنصب الجديد. وفي هذا السياق حرص البعض على إشاعة أخبار عن وجود اتصال مع بعض رموز الميلشيات العربية السُّنية، ممن يفترض أنهم يعادون مقاتلي "القاعدة" من الأجانب، الذين وإن كانوا هم أنفسهم من السُّنة، إلا أنهم مسؤولون عن ارتكاب أعمال عنف ضد المدنيين (فضلاً عن أنهم منافسون محتملون لسُنة العراق). وفي هذه الأثناء قيل إن بعض القادة العسكريين الأميركيين يدفع لتسليح تلك الجماعات، على رغم أن العديد من عناصرها مرتبط بحزب "البعث" المنحل، وبالجيش العراقي السابق. وفي الوقت الذي تقوم فيه الولايات المتحدة بتسليح وتدريب الجيش والشرطة العراقيين ذوي الغالبية الشيعية، واللذين يخضعان ولو نظرياً لسلطة الحكومة الشيعية التي أقامتها أميركا بهدف القضاء على التمرد السُّني في غالبيته، تقوم واشنطن اليوم بتسليح عناصر من ذلك التمرد نفسه، معتقدة أنهم سيقصُرون هجماتهم على "القاعدة" وسيستثنون القوات الأميركية، أو الحكومة العراقية.

هذا التوجه اليائس يتزامن مع مقترح أميركي شامل يقضي بتعزيز نفوذ إقليمي، من خلال بيع أسلحة متطورة إلى بعض دول المنطقة، على أمل أن يدفعها ذلك إلى استخدام نفوذها لكبح جماح التمرد السُّني في العراق. ولكن انظروا إلى التعقيدات التي تخلقها أميركا في الشرق الأوسط، فحسب الصحيفة الإسرائيلية "معاريف" تعارض الحكومة الإسرائيلية بشدة خطة تزويد بعض دول المنطقة بأسلحة متطورة، لأن ذلك يضعف التفوق العسكري والتكنولوجي لإسرائيل في الشرق الأوسط. كما تزعم إسرائيل أنها تتخوف من أن تقع تلك الأسلحة في أيادٍ غير حكومية، في ظل تنامي التيار الراديكالي في المنطقة.

وأكثر من ذلك هددت تل أبيب بإطلاق العنان لجماعات الضغط داخل أميركا، فضلاً عن محترفي صناعة الدعاية لمحاربة التوجه الأميركي الجديد في الشرق الأوسط. وهو التهديد الذي أزعج إدارة الرئيس بوش الذي تعهد بدوره بأن يرد على الحكومة الإسرائيلية المعارضة لخططه. وفي غضون ذلك تسعى الولايات المتحدة إلى تنفيذ خطة تقضي بسحب القوات الأميركية بدأ الحديث عنها مطلع العام الجاري، لكنها في نسختها الحالية تتجاهل ما إذا كانت الزيادة في عدد القوات قد نجحت في تحقيق أهدافها، أم لا. وتقضي الخطة التي يجري تداولها بسحب القوات الأميركية إلى قواعد عسكرية عملاقة، بينما يتم إرجاع الباقي إلى الولايات المتحدة لإسكات الرأي العام الأميركي. وليس واضحاً بعد ما إذا كانت السفارة الأميركية الأكبر في العالم -الموجودة في بغداد- ستكون واحدة من تلك "القواعد" التي يتعين حمايتها، ونفس الغموض يلف مصير "المنطقة الخضراء" التي تحتضن مقر الحكومة العراقية وتتعرض لهجمات بصواريخ الهاون بين الحين والآخر.

ويتوقع أن تخرج القوات الأميركية المخفضة من قواعدها وتتدخل لحماية الحكومة العراقية (لو افترضنا أنها نجحت في البقاء)، وللدفاع عن المنشآت النفطية في العراق، فضلاً عن التصدي لـ"القاعدة". ويبدو أن الخطة الجديدة تنص على مغادرة العراق، لكن دون مغادرته حقاً، وهي ترتكز على الفرضية الخاطئة بأن القواعد الأميركية الحصينة ستكون بمنأى عن الهجمات، أو الحصار، على رغم اعتماد تلك القواعد العسكرية على خطوط الإمدادات الطويلة. ومن الأفكار الأخرى التي يتم الترويج لها تشبيه التواجد الأميركي البعيد الأمد في العراق بالتواجد الأميركي في كوريا الجنوبية الذي دام طيلة نصف القرن الأخير. غير أن المروجين لهذه الفكرة ينسون أن ما جرى في كوريا الجنوبية لم يكن تمرداً، بل كان حرباً استعرت بين جيشين نظاميين. فقد طردت القوات الأميركية والكورية الجنوبية الجيشين الصيني والكوري الشمالي ودفعتهما إلى خط العرض 37 الذي تحول لاحقاً إلى خط هدنة مازالت تحيط به تحصينات منيعة إلى غاية اليوم. فأين خطوط الهدنة المماثلة في العراق، هل هي أبواب القواعد الأميركية الدائمة؟

وقد صرح الجنرال "دوجلاس لوت"، قيصر الحرب المعيَّن والمنوط به الخوض في تلك التناقضات واجتراح الحلول القادرة على معالجتها بعدما رفض العديدون تولي المنصب إدراكاً منهم لصعوبة المهمة، أنه لم يؤمن قط بجدوى الزيادة في عدد القوات الأميركية. لكن من يدري فبعد عام من الآن قد يندم قيصر الحرب على عدم التزامه بأهم قاعدة يحفظها الجندي: "لا تقدِم أبداً على التطوع".

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)