ربحت الفتنة في المشرق العربي جولة جديدة في الأسبوع الماضي. فمن «انتصار» فصيل فلسطيني على آخر في جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء بالعراق، إلى اغتيال النائب وليد عيدو واستمرار أزمة «عصابة الإرهاب» بمخيم نهر البارد في لبنان.

كلها أحداث تستهدف تسعير نيران الفتنة المنشودة في مثلث الأزمات المشتعلة بالمشرق العربي. هو مثلث يعاني من تداعيات الاحتلالين الإسرائيلي والأميركي وتتداخل فيه صراعات محلية وإقليمية ودولية، لكنه أيضاً مثلث «الديمقراطية الأميركية» التي أرادت إدارة بوش أن تجعله «نموذجاً» لشرق أوسط جديد!

ورغم المسؤولية المباشرة لأطراف فلسطينية وعراقية ولبنانية عما حدث ويحدث في هذا «المثلث الفتنوي»، فان واشنطن تتحمل المسؤولية الكبرى عن التداعيات السلبية الجارية الآن. فإدارة بوش هي الخصم والحكم. هي المرجعية التي يُعوِّل عليها بعض العرب لحلِّ أزمات العراق وفلسطين ولبنان، فضلاً عن تطلّع هؤلاء لإمكان تحسينها للعلاقات المتوتّرة بين بعض الأطراف العربية والإقليمية أيضاً.

والإشارة هنا إلى أزمات العراق وفلسطين ولبنان، لا يُقصد منها ما يتعلّق فقط بمشكلة الاحتلال الأميركي للعراق أو الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والجولان ولبنان، بل أيضاً ذلك الوجه الآخر المتعلّق بالصراعات الداخلية في العراق، وبين حركتي «فتح» و«حماس»، وبين الحكومة وقوى المعارضة اللبنانية.

فواشنطن التي شجّعت على انتخابات مبكرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى عدم التعامل مع حكومة «حماس» التي جاءت حصيلة انتخابات ديمقراطية، هي نفسها واشنطن التي عارضت انتخابات نيابية مبكّرة في لبنان، وتريد من المعارضة اللبنانية الخضوع للحكومة اللبنانية العرجاء. فالمعيار لدى واشنطن هو الموقف من الأطراف المقاومة للاحتلال الإسرائيلي في الحالتين اللبنانية والفلسطينية.

مسؤولية الإدارة الأميركية كانت واضحة في ازدواجية مواقفها من حكومة حركة حماس، من جهة، وفي رفضها لأي تعديل سياسي في الواقع اللبناني الحاكم، من جهة أخرى. فليست الديمقراطية هي مرجعية هذه الازدواجية الأميركية، ولا المحبّة أيضاً لحركة «فتح» أو لقوى «14 آذار»، بل المعيار الأميركي الوحيد هو الموقف من إسرائيل ومن السياسة الأميركية في المنطقة.

أطراف عديدة نصحت المقاومة اللبنانية بأن لا تكون في خضمّ الصراع السياسي الداخلي لأنَّ ذلك يأخذ من وهج المقاومة. وأصحاب هذا الرأي أنفسهم كانوا ضدَّ المقاومة في الصيف الماضي وانتقدوها لأنّها قامت بأسر جنديين إسرائيليين.

إن الصراع في لبنان ليس هو بصراع سياسي داخلي فقط. إنَّه في حقيقة الأمر استكمال لصراعٍ أرادته واشنطن وأشركت باريس به معها، وذلك منذ منتصف العام 2004، من أجل إنهاء مسألتين في لبنان: الوجود العسكري السوري والمقاومة اللبنانية ضدَّ إسرائيل، وكجزء من ترتيبات خططت لها الإدارة الأميركية لبناء شرق أوسطي جديد وكتمهيد لتصعيد الصراع مع إيران. وهي قضية كانت واضحة تماماً في القرار 1559 الصادر في العام 2004، وما رافق هذا القرار من تأزّم سياسي لبناني داخلي وفي العلاقات الأميركية والفرنسية مع دمشق، ثم ما لحق هذا القرار الدولي من اغتيالات وتطوّرات.

وقد تحقّق حتى الآن الهدف الأول، وهو إخراج القوات السورية من لبنان بشكل سلبي جداً، ثمَّ جاءت حرب الصيف الماضي من أجل تنفيذ الهدف الآخر بعدما فشلت الضغوط السياسية عن تحقيقه لأكثر من عام من الزمن.

وانشغل اللبنانيون في دراسة الواقع السياسي داخل «الزواريب» الضيّقة للمناطق اللبنانية والتوزّع الطائفي والمذهبي فيها، بينما بحْث أمورهم يتمّ في عواصم الدول الكبرى! وفي ذلك تأكيد بأنَّ ما يحدث على أرض لبنان ليس صراع طوائف ومذاهب وحصص سياسية، بل هو صراع على مشاريع دولية وإقليمية في ظلِّ غياب حكومة وطنية واحدة وافتقاد لمرجعية عربية فاعلة.

إنَّ ما يحصل في لبنان وتداعيات الصراعات الفلسطينية بالأراضي المحتلة هو محصّلة للصراع الأساس مع الاحتلال الإسرائيلي.

وهناك أطراف لبنانية وفلسطينية وعربية تجد مصلحةً لها في نهج الإدارة الأميركية، رغم مسؤولية هذه الإدارة عن تهميش القضية الفلسطينية والصراع العربي/الإسرائيلي، ورغم أيضاً التعثّر الكبير الحاصل في سياسات هذه الإدارة وفشلها الذريع في العراق وفي عموم المنطقة، فالمرجعية الأميركية القائمة الآن تتهاوى سياسياً داخل أميركا نفسها، فكيف سيكون مصير من يرتهنون بها أو يراهنون عليها؟!

إنَّ الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً هو تساقط الأوطان العربية واحدها بعد الآخر، وانشغال شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية، فمن رحم هذه الحروب على أراضي فلسطين ولبنان والعراق تتوالد أزمات سياسية وأمنية عديدة أبرزها الآن مخاطر الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية، إضافة إلى الصراعات السياسية والتنافس على السلطة والحكم، بل وعلى المعارضة أحياناً.

ومع هذه الحروب المفتعل بعضها من قوى دولية وإقليمية، أو المنفعل بعضها الآخر من قبل أطراف محلية، تتصاعد الأزمة الأميركية/الإيرانية لتصل أيضاً إلى حد احتمال الحرب على إيران، وفي ظل «الصراع البديل» المتواصل من خلال حلفاء وأطراف محلية فاعلة في ساحات الأزمات الدائرة.

هذا هو حال منطقة الشرق الأوسط الآن، بما في ذلك الواقع الإيراني والعامل الإسرائيلي وهما متداخلان مع تداعيات الانحدار الحاصل في أوضاع المنطقة العربية والفشل الكبير لسياسة الإدارة الأميركية الحالية.

ان الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية المعنية الآن بأوضاع منطقة الشرق الأوسط هي كلها في مأزق كبير وتبحث ضمنياً عن مخارج للأزمات لكونها عاجزة عن التقدّم إلى الأمام، كما أنّها لا تريد طبعاً الرجوع إلى الوراء، وقد يجد بعضها ضمانات لمصالحه في حال التصعيد والتأزّم القائم على الفتنة. فالمعضلة الآن أنَّ كلا نهجي «التسوية» و«المقاومة» وصلا في مسيرتهما إلى جدار كبير يسدّ طريقهما، بينما «الرئيس الأميركي لمجلس إدارة العالم» اليوم يمتنع عن الدخول في مفاوضات وتسويات شاملة وعادلة لأزمات المنطقة المتشابكة.

ولعلَّ الحرب في العراق الآن هي «نموذج» لكلِّ الحروب والأزمات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، وأيضاً للأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة في تطوّراتها.

ففي العراق حرب بين احتلال ومقاومين له، وحرب بين جماعات إرهابية فعلاً وبين رافضين لهذا النهج، وحرب بين مناطق وطوائف ومذاهب واثنيات، وحرب بين قوى إقليمية مجاورة، وحرب بين مشاريع تقسيمية إسرائيلية، وفيدرالية أميركية، وتوحيدية وطنية، مع تنوّع رؤى القوى الإقليمية لمستقبل العراق بوجود هذه المشاريع الثلاثة!!

هنا يكمن خطر تناقل الأوبئة الراهنة بين العراق ولبنان وفلسطين في منطقة سِمَتها الآن ضعف المناعة وطبيبها يدفع بها للانتحار!

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)