من حقّ الجهلاء في هذه الأمّة القول: هذا عصرنا.

نعم. هو الآن عصر التطرّف في الأفكار، والعنف في الأساليب، والجهل في الدين، والتجاهل للوقائع ولحقيقة ما يحدث على أرض هذه الأمَّة وبين شعوبها.هو عصرٌ يرفض الهويّة العربية المشتركة، بل ويرفض أحياناً كثيرة الهويّة الوطنية، ويريد وصم شعوب هذه الأمَّة بتصنيفات تقسيمية للدين وللعروبة وللأوطان.

هؤلاء الجهلة يريدون إقناع أبناء وبنات البلاد العربية أنّ مستقبلهم هو في ضمان «حقوقهم» الطائفية والمذهبية، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمة هذه المسيرة الانقسامية هي تفتيت الأوطان والشعوب وجعلها ساحة حروب لقوى دولية وإقليمية تتصارع وتتنافس الآن على كيفية التحكّم بهذه الأرض العربية وبثرواتها.

هناك حتماً أكثرية عربية لا تؤيّد هذا الطرح «الجاهلي» ولا تريد الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية «صامتة»، ومن يتكلّم منها بجرأة ضدّ هذا العصر الجاهلي، يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فيبقى صوته خافتاً أو يتوه هذا الصوت في ضجيج منابر المتطرّفين والطائفيين والمذهبيين الذين هم الآن أكثر «حظّاً» في وسائل الوصول إلى الناس.

العرب يحصدون اليوم نتائج زرعٍ متعدّد المصادر جرى في الأربعين سنة الماضية، وكانت بدايته في حرب العام 1967، من أجل اقتلاع فكرة العروبة من رؤوس العرب الطامحين بمستقبل أفضل لأمَّتهم وأوطانهم وأجيالهم الجديدة، وقد استغلّت أطراف خارجية ومحلية سلبيات كثيرة كانت ترافق فكر وممارسات الحركة القومية العربية.

في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه دعوات بديلة للهويّة العربية كانت تتمحور حول الدين والهويّة الإسلامية بمنظور فكري يرفض الانحسار في تسميات قومية ووطنية ويدعو إلى نظامٍ شمولي يقوم على الشريعة ويتحدّث عن «أمَّة إسلامية» أكبر وأوسع من جغرافية الأمَّة العربية.

لكنْ عقود زمنية طويلة من الطرح الفكري والممارسة العملية أثبتت أن «البديل الديني» للعروبة لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء في كل بلد عربي، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إن كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتى من اتجاهٍ سياسيٍّ آخر!

ويخطئ من يعتقد الآن أنَّ نجاح بعض الجماعات الدينية في المواجهة مع قوى أجنبية أو محتلّة يعني ضماناً لمستقبل أفضل. بل إنّ في بعض هذه المواجهات، ذات الأساليب الإرهابية، فائدة للتطرّف على الطرف الآخر الذي تقوده الآن إدارة أميركية قامت سياستها على أيديولوجية العنف والتطرّف أيضاً. فالتطرّف الفكري وأسلوب العنف العشوائي لدى جهةٍ ما يخدم حتماً المقابل له في الجهة الأخرى.

حتى «مقاومة الاحتلال» أصبحت ظاهرة رهينة لمن يشوّهها فكرياً بالتطرّف، وعملياً بأسلوب العنف العشوائي الذي يستهدف المدنيين الأبرياء في أماكن عديدة من العالم. وكما فشل وما زال يفشل «البديل الديني» للهويّة العربية في توحيد شعوب هذه الأمّة، فقد عجز «البديل الوطني» أيضاً عن بناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. بل إنّه لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ غياب الهويّة العربية، وفي عصر الجاهلية السائدة الآن، والفهم الخاطئ للدين وللتعدد الفقهي فيه، ولكيفية العلاقة مع الآخر أياً كان.

إنّ تعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة على المستوى العربي الشامل. فتحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي هو أمر مهم لبناء علاقات عربية أفضل، ولضمان استمرارية أيّ صيغ تعاون عربي مشترك، لكن المشكلة أيضاً هي في ضعف الهوية العربية المشتركة - كما هو في ضعف الهوية الوطنية - وطغيان التسميات الطائفية والمذهبية والعرقية على المجتمعات العربية. وبذا تصبح العروبة لا مجرّد حلٍّ لأزمة العلاقات بين البلدان العربية فقط، بل أيضاً سياجاً ثقافياً واجتماعياً لحماية الوحدات الوطنية في كلِّ بلدٍ عربي ولمواجهة مخاطر الانفجار الداخلي في كل بلد عربي.

إنّ المدخل السليم لنهضة هذه الأمَّة من جديد وللتعامل مع التحدّيات الخطيرة التي تستهدف أوطانها وشعوبها وثرواتها، هو السعي لبناء هُويّة عربية جامعة تلمّ شمل هذه الأمَّة وما فيها من خصوصيات وطنية وإثنية وطائفية، وتقوم على حياة سياسية ديمقراطية سليمة تعزّز مفهوم المواطنة وتحقّق الولاء الوطني الصحيح.

إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة تبني النموذج الجيد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير لكنّه الأمل الوحيد في مستقبل أفضل يحرّر الأوطان ولا يفتّتها بعد تحريرها، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً عن قصدٍ أو عن غير قصد لسياسات أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.

هناك بلا شك خميرة عربية جيدة صالحة في أكثر من مكان وهي الآن تعاني من صعوبة الظرف وقلّة الإمكانات وسوء المناخ الانقسامي المسيطر، لكن تلك الصعوبات لا يجب أن تدفع لليأس والإحباط بل إلى مزيدٍ من المسؤولية والجهد والعمل. فالبديل عن ذلك هو ترك الساحة تماماً لصالح من يعبثون في وحدة هذه الأمّة ويشعلون النار في رحابها.

الظروف ستتغيّر عاجلاً أم آجلاً. وفكر التطرّف سيفشل عالمياً وهو ينحر نفسه كما ينحر الآخرين، إن كان ذلك المتطرّف حاكما هنا أو معارضا هناك، لذلك من المهم أن تكون هناك خمائر طيّبة جيّدة جاهزة تتحمّل مسؤولياتها في إعادة بناء ما هدمه ويهدمه القائمون على عصر الجاهلية والتطرّف الآن.

لقد سقطت بدائل العروبة في امتحانات كثيرة، لكن المشكلة أنّ هناك ندرةً حالياً في الأيدي الرافعة للعروبة!

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)