حاوره: مازن بلال، خالد الاختيار

لا يمكننا التعليق على أي بداية للقاء مع الدكتور عزمي بشارة، لأن الحوار يمكن أن يبدأ لكن من الصعب خلق نهاية له، فهو يبحث في إشكاليات الهوية، مما يجعل من الصعب التوقف عند نقطة واحدة، ورغم أن كتابه يشكل "مقدمة" لكنه يشبه إلى حد بعيد "منطق التأسيس" لبدايات بعد أن تشعبت المحاولات والأفكار منذ مرحلة "نشوء القومية العربية".

عمليا فإن حوارنا مع عزمي بشارة ربما لا يكفي لإعادة فتح ملفات "المسألة العربية".. لكنه على الأقل يضيء على بعض الخطوط داخل الكتاب، وربما يلخص عددا من النقاط التي يحاول البعض تجاوزها من خلال "المشاريع السياسية" اليوم، لكنها تبقى حاضرة في التفكير والحياة اليومية:

* تتحدثون عن بناء الأمة.. وبناء القومية كيف يمكن ان نفهم الهوية القومية في ظل "عمليات البناء" التي تتحثون عنها؟

هذا سؤال مكثف ويحتاج إلى تركيز كبير للإجابة عليه.

عليك أن تميز عندي بين أمرين, الـ(نيشن بيلدينغ) Nation Building ليس المقصود بها بناء القومية, وإنما بناء الأمـّة.

أنا أقول أن كل الهويات تصنع بما فيها الهوية القومية, وعملية بناء الأمـّة هي عملية منفردة متعلقة ببناء المؤسسات في الدولة, وكما في العالم الثالث في الغرب أيضا.

وتبدأ عملية البناء هذه بمؤسسة الجيش والمؤسسة الأمنية, والتجنيد الإلزامي, وانتشار وسائل الإعلام وتوسع الطبقة الوسطى -الـ(جاسرة) للهوة بين الطبقات,الإقطاع و الأقنان-, ونشوء برجوازية المدن, ونشوء الطباعة, والتعليم الإلزامي, ثم كتابة التاريخ الرسمي.

وهي العمود الأساسي لعملية بناء الأمم.

ثم تطور الموضوع عبر الحداثة, ولكن في المجمل فان عملية بناء الأمـّة لا تنفصل عن عملية بناء المؤسسة والتي تحظى بشرعية شعبية.

أمر آخر, كلامي عن الهويات وأنـّها تبنى بمعنى أنـّها تصنع يعني أنـّها ليست شيئا معطى بالطبيعة, أو شيئا غير متبدل أو غير متغير, بل إن هويات الناس تتبدل وتتغير وتزول وتنشأ

فإذا كنت تقصد بسؤالك (الهويّة)؛ فأنت محق بهذا التمييز, حيث أن الإشكال اكبر منه في القوميات التاريخية منه في حال الأمم الناشئة حديثا والتي تلتقي فيها القومية مع الأمـّة,

او تلك التي لا تملك قومية بقدر ما هي امة.

ودول مثل أميركا وكندا واستراليا وغيرها تقوم هي نفسها بإنشاء عصبيات قومية جديدة عبر التعصب لأمور مثل العلم ونمط الحياة (أميركان وي اف لايف) "American way of life"

وهذه الأخيرة تشبه إلى حد بعيد الحديث عن الخصوصية الشرقية والخصوصية العربية كمصدر للتعصب حيث أن الوطنية الأميركية عموما والتي يمكن مشاهدتها في الـ(4) من تموز -عيد الاستقلال- من الصعب ان تشهد مثيلا لها في دول العالم الثالث وخاصة في زمن الأزمات و الحروب.

أي أن هناك محاولة لبناء هوية أميركية, بل يوجد عمليا خلاف على طبيعة هذه الهوية, إذ يقول هنتنغتون مثلا ان على هذه الهوية ان تحوي مكونات أنجلوسكسونية و بروتستانتية,

وان كثرة العناصر الهسبانية الكاثوليكية تخربها, ويعتبر هؤلاء خصما كبيرا للهوية الأميركية, وهذا يعني أن هنتنغتون قد حدد في ذهنه لأميركا نوعا من الهوية القومية, مع أن المفترض هو أن أميركا مبنية على التنوع.

إذن فحتى في تلك الدول؛ الهويات هي موضع خصام, تماما كالسؤال الدائم في استراليا عما إذا كان للهوية الاسترالية أن تشمل السكان الأصليين أم لا, و كيف.

في كندا كذلك, إذ هل من الممكن اعتبار الهوية الكندية متعددة القوميات أم لا؟

حيث الثقافة في كيبيك ثقافة فرنسية, بينما الآخرون ليسوا بالضرورة ذوي ثقافة انكليزية, أو هوية انكليزية حتى بين الناطقين بتلك اللغة.

إذن الآن وبعد نشوء الأمـّة عادت من جديد مسائل الثقافة القومية رغم ذلك التعميم الليبرالي الذي ينالنا جميعا قسط منه ويصيبنا بعقدة نقص أمام تلك الدول التي يقال انه لا يوجد فيها قوميات,

وهذا أمر بعيد عن الصحة, فحتى بعد نشوء الأمـّة الديمقراطية عاد هذا السؤال القومي لديهم جميعا, أما في حالة القوميات التاريخية فالمسالة معقدة, لأنه ثمة ميل لدى القوميين تحديدا

في هذه الدول للاعتقاد أن هويتهم كانت دائما قومية وانه كانت دائما هناك مسألة هوية,

بينما واقع الأمر أن مسالة الهوية برمتها إنما هي مسالة حديثة, وكل الإشكال الذي يسمى بإشكال الهوية هو إشكال وجود فرد حديث يشكل هويته, التي هي شيء غير معطى.

فالهوية تنتج عبر ممارسة تكاد تكون موروثة ومؤلفة من واجبات و احتفالات وعادات و تقاليد,

والحالات التي يتم فيها التفكير بمثل هذه الأمور أو النقاش حولها حالات بلغ من اسثنائيتها أنـّها باتت معروفة و مشهورة بعينها, كحالة الصعاليك مثلا, وهو من نمط الاستثناء الذي يؤكد القاعدة القائلة بأن الهوية ليست إشكالا إلا عند كبار المفكرين و الرحالة, اذ لم يوجد ذلك الإشكال التاريخي حول من نحن أو ما نحن, وأمر كهذا بحاجة إلى فرد (اتونومي) Autonomy يفكر بهوياته ويختارها او يحاول اختيارها.

هذا بخصوص جدة إشكال الهوية, أمر آخر هو أن الهوية القومية أصلا إنتاج حديث للحداثة,

فحتى لو افترضنا وجود عرب قبل العروبة الحديثة, وهو طرح أوافق عليه من حيث المبدأ

بمعنى انه كان هناك ثمة وجود لأناس يعتبرون أنفسهم عربا ويتحدثون العربية -قضية أنهم يفصلون بين هويتهم العربية و الإسلامية او لا يفصلون مسالة أخرى-

ولكن هل كانوا يرون أنفسهم في سياق عربي, وما حجم هذا السياق, في ظل انعدام وسائل الاتصال لتخيله؟

انا لا اعتقد انه كان ثمة وعي لكل هذه المسائل, ولكن الامر المؤكد ان وسيلة نشر كل هذا كان الإسلام هو المسؤو ل عنها, ووسيلة نشر الهوية العربية في المنطقة كان الفقه الإسلامي,

وهنا لا يمكننا الفصل بين الأمرين.

وبالتأكيد هذه لم تكن حينها هوية قومية كما يفكر اليوم القومي بالعروبة كهوية قومية,

من حيث أنـّها هوية تجمعه بجماعة متخيلة.

وكما كان الإنسان ينتمي في الماضي إلى قبيلة؛ فهو اليوم ينتمي إلى امة, و هذا الشعور بالانتماء الشامل إلى مجموعة كبير ة من البشر -اكبر وحدة ممكنة- على أساس ثقافي مثل اللغة, او تخيل وحدة تاريخ؛ تدفعه في النهاية باتجاه ضرورة تخيل وحدة مصير, وهنا يبدأ التسييس.

هذا شان جديد وتفكير جديد, وهو أمر لم يكن ممكنا قبل نشوء الثقافة القومية وفئة المثقفين و الطبقة و الوسطى وحركة النشر التي رافقتها ووسائل الإعلام والصحافة.

لذلك من حق القومي العربي أن يحاول من اجل تعميم الفكر القومي أن يعيد كتابة التاريخ كأنه تاريخ قومي, ولكن من ناحية أخرى يجب أن يكون في كل فكر قومي من يؤشر إلى انه مع صحة فرضية انه كان هناك ثمة عرب؛ غير أن الفكرة القومية هي عملية إعادة صياغة, أي أنـّها مصنوعة (ليس اصطناعية).

كل شيء اجتماعي هو مصنوع ومن صنع البشر,لا معطى طبيعي.

وأنـّها –أي القومية- بالطريقة التي نشأت بها؛ من الممكن أن تتفكك.

و بالتالي يجب التفكير دائما بطرق للحفاظ عليها من الطائفية والعشائرية مثلا,

وهي بذلك تحتاج إلى مقومات وتفكير واع بشأنـّها.

* يفهم من عنوان الكتاب أن هنا "بيان" أي أسس لمشروع، هل هناك مثل هذا التفكير لديك؟

لا ادري في الحقيقة فيما إذا كنت بصدد صياغة بيان أو كتيب اسمه البيان الديمقراطي العربي.

تفكيري لا يصب في هذا الاتجاه حاليا -قد اقوم بذلك في يوم من الأيام- لكني متجه اليوم نحو كل من يريد ان يصوغ بيانا له ابعاد عملية سواء في الثقافة او في السياسة, او لبرنامج ديمقراطي في دولة عربية ما.

أنا أريدها مقدمة تفتح الحاجة أمام هكذا بيان, بحيث ان يصاغ من هكذا مقدمات, لا من مقدمات اخرى من نمط معاد للأجندات الوطنية و القومية, او تلك التي تدعو الى تدخل خارجي, او التي تتعمد تجاهل الفكر القومي, أو اعادة انتاجه بشكل غير الديموقراطي

أنا اقول ان هذه انما مقدمة لا للبيان العربي الديموقراطي (بالف و لام العهد), و انما لـ(بيان عربي ديموقراطي), وبهذه أنا اضع تحد امام الديموقراطيين العرب, أو القوميين

الذين يهربون الى قضايا صغيرة مثل التطبيع مثلا دون القضية الكبرى, رغم انني شخصيا ضد التطبيع و مع المعركة القومية, ولكنني ارى انه ثمة هروب من السؤال المتمثل بـ(ما هو برنامجك لهذا البلد الذي تعيش فيه و تعارض فيه و تنتقد فيه؟)

اذ من حق الناس ان تسال هؤلاء عن الكيفية التي ينوون ادارة البلد بها اذا تسلموه, وفيما

إذا كانت لديهم اجابة على هذه السؤال, وهذا قبل الحديث عن التطبيع و الخيانة و ...

أنا سأسلم مصر لفلان مثلا, فماهو برنامجه, وكيف ينوي ان يطعم ويسقي تلك الملايين من الناس؟

ما هي برامجه و خططه للزراعة و الصناعة و التعليم و...؟

أنا اتصور ان النبرة الاحتجاجية العنيفة في كثير من الحالات, والتي عادة ما تكون محبطة, انما تاتي للتغطية على الخوف من الدخول في التفاصيل.

أي نعم انت تنتقد النظام الحاكم في معالجته للقضايا, و لكن من دون ان تطرح الكيفية التي ستعالج انت بها هذه المشاكل نفسها.

الحركة القومية مثلا سبق لها و عممت التعليم, وبعضهم يصف ذلك بالانجاز و آخرون يقولون ان ذلك عمليا كان كارثة!

اذ صار التعليم جماهيريا و قذف في السوق بمئات الآلاف من الخريجين سنويا, من دون خطط للاستفداة من هذه الكوادر.

لذلك ما اقصده هو الحث على صياغة بيان له بعد (برامجي), و تصورُ للكيفية التي يجب ان تدار بها الأمور في المجتمع الذي نعيش بين ظهرانيه.

أتصور ان القوى القومية الديموقراطية لا يمكن لها أن تؤخذ على محمل الجد ما لم تنخرط في (بروفات) من هذا النوع.

فعندما اسال أنا مثلا ما هي دولة المواطنة؟, اجيب بأنـّها عبارة عن كذا و كذا و كذا ...

وعندما يسالونني ماذا تقصد بالاعتراف بنا وبحقوق جماعتنا داخل اسرائيل؟, اجيب بالقول أنا اقصد أولا ...ثانيا ...ثالثا...

وهي كلها امور قابلة للتنفيذ وليست (يوتوبيات) في حال توفرت الارادة السياسية.

ما قدمته في كتابي ليس برنامجا ناجزا و انما تحد امام أولئك الذين يريدون ان يعملوا.

أنا قدمت مقدمة عن الوضع الراهن و التحديات التي تواجه تجديد الفكر القومي باتجاه الديموقراطية و التمييز بين القومية و الأمـّة, و من هنا يمكن الانطلاق لصياغة الـ(بيان).

* تذكر في كتابك أن بناء الأمة يقف أمام احتمالات، بعضها ينتج عن تطور الرأسمالية، والآخر يعوض عن نقص التطور الصناعي بـ"الإيدلوجيا"، كما ان الدولة تتدخل أحيانا لخلق هذا البناء كما في دولة "الميجي" في اليايان.. هل ظهر هذا الأمر في المنطقة العربية؟

أنا برايي انه لم يشرع به بعد.

اعتقد ان ما حصل عندنا يشبه الى حد بعيد وضع دول المماليك, اذ ان المشروع الكبير و المتمثل بقيام الدولة العربية هو عمليا لم يحصل.

وبسبب من التقسيم الاستعماري, وجد لدينا قطبان؛ قطب يعيش على هذا الواقع, واقع مؤقت لا ضرورة للتعامل معه, يعتبر كل ما يحصل مجرد تمرير للوقت الى ان يقوم ذلك المشروع.

وهكذا ايدولوجية لا يمكن لها ان تطرح برنامجا حقيقيا لبناء امة, لأنـّها اصلا لا تعترف بشرعية ما هو قائم, بينما الديموقراطية في الاساس لا تقوم الا على فكرة الشرعية.

ولايمكن لاحد ان يفكر اصلا ببناء مؤسسات رسمية منفصلة عن الحكم و عن السلطة بدون فكرة الشرعية, و بالتالي فالذي يحصل في هذه الحالة هو ان أناسا من هذا القطب الذي ذكرناه سيشرعون في بناء مؤسسات هم انفسهم لا يؤمنون بشرعيتها, ليعمدوا فيما بعد الى التعويض عن هذه الشرعية المفتقدة بالاستبداد أو القسر.

اما القطب الثاني؛ فيمثله هؤلاء الذين لا يعترفون اصلا بوجود مسالة قومية, ويعتبرون ان الدول على وضعها الحالي هي دول طبيعية, ويتعاملون معها كاقطاعيات وليس كدول, من دون أي فصل بين الحيز العام و الخاص, وتمثلهم الانظمة الملكية المحافظة.

وهنا من المتعذر طرح مشكل الفساد بشكل جدي, إذ لا يمكن القول بوجود (فساد) لأنه عمليا لا وجود لشيء آخر سوى (الفساد) نفسه!

فعندما تكون محاطا بالفساد فكيف السبيل الى ان تبحث عنه؟

ودول معينة كهذه لا يمكن القول فيها ان احدا ما ياخذ من محفظة الدولة و يضع في محفظته, ذلك ان محفظة الدولة هي محفظته.

اما في سوريا مثلا والتي يحصل ان تهاجم باعتبار ان فيها فسادأ فذلك لأنه يمكن هنا ان تميز بين حيز عام وحيز خاص, وان ثمة شخصا يسرق من العام و يضع في جيبه الخاص, هنا يمكن تسمية ذلك بالفساد.

بينما هناك دول اخرى لم تصل اصلا الى مرحلة التمييز بين هذين الحيزين.

اذا لدينا طرفان, قومويون مشغولون بالمشروع الاكبر, وهو بناء الأمـّة الكبرى, ويرون الوضع الراهن مؤقت, ولا وجود لديهم لمشروع بناء امة مواطنين في دولة, كون الأمـّة تتلاقى عندهم مع القومية, وبالتالي فعند توحد الأمـّة (العربية) ستقوم الدولة.

وعليه فكل ما اتحدث عنه هو عمليا غير وارد في ذلك الفكر, رغم انني اعتقد ان أولئك الناس كانوا أشخاصا مخلصين و من الخيرة خلاف ما يقال عنهم أو يذكرون به, ولكن كان هذا هو خطهم و دورهم التاريخي الذي نرى نتائجه ذلك اليوم, وهم يختلفون عن الجيل الذي تلاهم

وطرف تشكله التيارات الاخرى المحافظة, التي تحاول ان تتعامل مع الدول الموجودة كدول (سلطانية).

لكن الطرفين في النهاية اضطروا الى القيام بـ(اصلاح), و من هنا نشات الحاجة الى كتابة الكتاب

إذ ان كلا من القطبين مهتم بالقيام باصلاحات, والكتاب محاولة لتمييز هذا الاصلاح المطلوب.

ونحن سمعنا احاديث عن اصلاح برلماني في دول سلطانية الطابع لا يملك البرلمان فيها اصلا اية صلاحيات.

و من نافلة القول الحديث عن ان اصلاحات كهذه لا تنشئ احزابا, لان انشاء الاحزاب قائم

على جدية التعاطي مع السياسة, ولذلك فان احزابا تقوم على هكذا برلمانات أو انتخابات من دون صلاحيات؛ لا يمكن لاحد ان ياخذها على محمل الجد.

ولكن الدول قومية الطابع مرت كذلك باصلاحات.

وان اعتقد ان على الاصلاح ان كان له أن يأخذ منحى ما, فأفضله وفق المنحى الذي أتيت على ذكره في كتابي.

واذا تحدثنا عن مراحل انتقالية يمكن لي القول أنه كان هناك شيء من الاستقرار في سوريا مثلا,خلافا للعراق و ما حصل من احتلال الكويت و ما الى ذلك من السياسات التي (تلخبطت) في ذلك البلد.

وحافظ الاسد وفي حالة سورية المختلفة نتيجة عن أنه كان هو نفسه مختلفا عن غيره من الزعماء؛ لديه انجاز هو في واقع الحال ليس من اكتشافي أنا, اذ كتب عنه كثير من الغربيين, وهو أنه صالح سوريا مع حدودها خلافا للتيار القومي,

وحاول أن يجعل سوريا تتعامل مع محيطها بواقعية سياسية الى حد ما, و لم تكن سوريا كدولة في حال ثورة دائمة تبحث عن توحيد الأمـّة وكلام من هذا القبيل, وهو رأي كثير من الباحثين و المنظرين في الشان السوري في الغرب.

* تتحدث عن عمليات ترييف المدينة التي حصلت في العالم العربي، بينما يعتبر البعض أننا لم نكن نملك مدنا بل "ريف كبير".. ...

لا أنا لا أوافق على هذا الطرح, اذ انني اعتقد انه كان لدينا مدن بهذا المعنى, بل و كانت مدنا واعدة ايضا مع طبقة وسطى صاعدة, و دمشق كانت أحد أهم تلك المدن ان لم يكن أهمها.

ففي حين كانت دمشق مدينة كانت بيروت لاتزال قرية, وانتاج دمشق الفكري و السياسي والادبي والفني و التجاري دليل على ذلك.

وأنا لا اتكلم هنا عن مدن صناعية كبرى, اذ كان في مدننا بلا شك برجوازية وسطى وطبقة تجار, و كانت تفكر في الاستثمار في الصناعة, لا شك لدي في ذلك, فبرجوازية يافا على سبيل المثال بدأت تستثمر فعلا بالصناعة -تصنيع المنتوجات الزراعية من الساحل الفلسطيني- ومن ثم التصدير.

حيفا ايضا بدأت تجتذب رؤوس أموال من كل المنطقة, كونها تمتعت باستقرار اكثر من بيروت في فترة ضعف الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية وقوة الانكليز.

و المثل ذاته ينطبق على دمشق و حلب, كذلك القاهرة, خاصة في فترة الحكم التركي لهذه الاخيرة التي اجتذبت المثقفين والمحاضرين الجامعيين و الادباء, و فيما بعد اصبحت مركزا للصحافة يقصدها القاصد من دمشق و بيروت و غيرها, من قبل الاقليات احيانا, و من غير الاقليات كذلك, هربا من الحكم التركي, متحولة –أي القاهرة- إلى مدينة تملك بالفعل ثقافة مدينة.

ولكن بالطبع لم تنشأ هناك تلك الصناعة القادرة على تحويل هذه المدن الى مراكز اقتصادية قادرة على استيعاب الهجرة من الريف الى المدينة.

وقع خراب للزراعة نتيجة الهجرة من الأرياف الى المدن, من دون ان تتمكن المدينة

من استيعابها, الامر الذي ادى في النهاية الى تريّف المدينة, أوأنا أوافق هنا على هذا الطرح,

و لكنني أقرأه على انه احد الاشياء التي تفسر الواقع الموجود, من مثال احزمة الفقر حول هذه المدن, والتي تشكل مجتمعا غير مندمج مع محيطه.

و لكن هذه الظاهرة ليست حكرا علينا, اذ لا يمكن ان تخطئها العين في المكسيك أو الارجنتين على سبيل المثال بما يفوق حجمها لدينا باشواط.

وأنا أشير إلى هذه الظاهرة كعائق برسم التجاوز, و قد تم فعلا تجاوزها في دول اخرى ضمن عملية بناء التعددية السياسية, و لكن في العالم العربي و بسبب وجود مسالة عربية ذات خصوصية, تصبح ظاهرة كهذه مانعة للتطور الديموقراطي.

اذا ان هذه المناطق تكون معرضة دوما للايدلوجيات, ناهيك عن الجهات الاصولية الدينية كبديل عن الهوية القومية العربية.

لا بأس من ان يتم الحديث عن ترييف المدينة لدينا, و لكن يوجد كذلك ترييف للمدينة في المكسيك, ولكن هنا تصبـِغ المسالة العربية كل شي بلونها, وتتحول لغة هذه الاماكن الى سياسات هوية, لا مجرد صراع طبقي مع مركز المدينة والبرجوازية, بل صراع هوية,

وتعبر عن نفسها بسياسات هوية, وهذا امر يميز الحالة العربية عن غيرها من الحالات الأخرى.

أما عن سؤالك عن عدم تعرضي لأمثلة من اميركا اللاتينية في كتابي, أقول أن الموضوع مغر في الحقيقة, وقد سبق ان وقعت مقارنات من هذا القبيل بين (البان اميركانيزم) و (البان ارابازيم), غير أن وجود لغة واحدة مشتركة مثلا في اميركا اللاتينية لم يدفعها للتحول الى أمة, ولم يدفع باتجاه تأصيل نزعة لتحويل اميركا كلها الى قضية, و هو على كل امر مغر بالبحث.

لكنني اعتبر من وجهة نظري ان مقارنة من هذا النوع غير واردة على الاطلاق بين المسألتين, لأننا في الحالة اللاتينية -وان وجدت لغة واحدة جامعة- انما نتحدث عن مجتمعات مستوطنين.

وأنا في كتابي لا احتاج حقيقة الى مثـَل اميركا اللاتينية, إذ هناك الكثير من الحالات في التاريخ عن دول تجمعها اللغة و لاتجمعها القومية.

فاللغة الالمانية تجمع دولا كثيرة من دون ان تجمعها القومية الالمانية (النمسا وسويسرا والمانيا),

كذلك الامر ذاته ينطبق على اللغة الانكليزية في الدول الناطقة بها.

وأنا لست ممن يقولون بأن اللغة بالضرورة تعني القومية, اذ ان اللغة شرط ضروري لذلك بالفعل انما غير كاف بذاته.

و هذا ما حصل في الحالة العربية عندما تبلورت الهوية القومية حول اللغة ووحدة الثقافة وتصور تاريخ مشترك وتصور مصير مشترك, وهذا على فكرة من فعل الحركات القومية.

وأنا في كتابي اشير الى قضية لم يتعامل الكتاب و المفكرون في الماضي معها بالشكل الصحيح,

وهي الانطباع في الوعي اليومي السائد بان وجود القومية ينتج حركة قومية, في حين اقول أنا بالعكس, اذ يمكن للحركة القومية ان تنتج قومية.

التفكير بالقومية هو مهمة فئة اجتماعية واسعة من مثقفين وطبقة وسطى, وهناك حالات كثيرة تشهد انه عبر نضال الحركات القومية بدات القومية ذاتها بالتشكل, من خلال معالجة تلك الحركات لهذا الموضوع ونشر افكارها حوله, وعبر عملها على توعية الناس بوجود مصير مشترك يجمع بينهم تنشا هذه القومية, و الذي لم يكن يفكر بهذا الموضوع سابقا يبدا بالتفكير فيه نتيجة لذلك.

* تجاوزت في كتابك "الفكر القومي السوري" هل هناك سبب لذلك؟

القومي السوري كان له حضور في فلسطين ما قبل 48 ,اما بعد 48 فلم يكن موجودا,

لذلك فهو لم يكن في وعيي الطفولي و نشاتي الأولى, وعليه فلا اعتبره من همومي,

وقد عدت فتعرفت عليه (على كبر).

اذ لم يكن للقوميين السوريين وجود في فلسطين على عكس الناصرية والقومية العربية والشيوعية, فالنكبة اخرجت كل النخب الثقافية و السياسية, كما أفرغت المدينة.

وهناك سوء فهم بالنسبة الى عرب الـ48 اذ ان عرب الـ48 هم عمليا الريف الفلسطيني الضعيف,

و الباقي ليس الا استثناء, لذلك كان من السهل (أسرلة) وعيه.

وحتى الحزب الشيوعي الذي حوي عربا, كان عمليا حزبا اسرائيليا, يرى نفسه جزء من التاريخ الصهيوني, وكان له (شهداؤه) في الهاغاناه, وقام بالتوقيع على وثيقة (الاستقلال), مع أن الموقعين عليها لا يتعدون المئة, غير انه كان أحدهم, و(افرايم سنيه) كان يوما قائد الهاغاناه, ورشح نفسه ليكون خليفة بن غوريون, عالم متناقض!

أعود لأقول أنني تعرفت على الحزب السوري القومي الاجتماعي في الخارج, و في المانيا تحديدا, حيث التقيت بسوريين ولبنانيين, وبدات اهتم بانطون سعادة, وبعد عودتي الى جامعة (بير زيت) قمت بتدريس نصوص لسعادة من خلال منهاج الدراسات الثقافية.

و لكنني في العموم لا اشعر بحاجة ملحة للنقاش معهم –القوميون الاجتماعيون- واحس على المدى القريب انهم حليف, فلاهم مصرون اليوم على قبرص, و لا نحن مصرون على كامل العالم العربي, فالعالم لم يعد يسير بهذه الطريقة.

و عليه فأنا لا اريد ان افتح نقاشا بهذا الصدد, اما على المستوى النظري فالخلاف عميق بيننا

من حيث انهم يعتمدون على الجغرافيا و التشكل الطبيعي كاساس للأمة كلها,و يعتبرون القومية معطى طبيعي, وهذا الكلام نفي نظري تام لما افكر به.

اذ انني اعتبر كما اسلفت ان القومية و الأمـّة ليستا معطى طبيعيا, وان القومية ظاهرة حديثة اساسها اللغة و الثقافة, لا التضاريس ووحدة الطبيعة.

وأنا اخشى من معطيات كهذه ان توصل الى العنصرية, علما أن ثمة حالات قد حدث فيها ذلك,

وقسم من الأفكار التي يطرحها القوميون السوريون سبق لها ان جربت في أوروبا.

ومع ذلك فان هذا الحزب جذب في فترة معينة خيرة الناس -و لا يزال-, وفئة واسعة ممن نتفاهم معهم في المجتمع من خريجي الحزب السوري القومي الاجتماعي.

وهم يملكون في العموم نزعة متنورة علمانية منطلقة, وشعورا بالواجب (غير معقول),

وهناك لدى الحزب معطيات اخلاقية رائعة تفتقدها الاحزاب الأخرى, واخص هنا مصطلح المناقبية لديهم, وهو لم يكن موجودا مثلا عند البعث, وحبذا لو كانت هذه الأمور موجودة في العمل العام اليوم.

مصادر
سورية الغد (دمشق)