المشكلة أن الحديث عن "الحصار" أصبح ثقافة ممجوجة بعد أن مارس العالم هذا الشكل لأكثر من عشر سنوات على العراق وعلي ليبيا، وأصبح اعتياد رؤية "الكارثة" الإنسانية نوعا من "استبدال" الأخبار التي تنقلنا من "الزلازل" إلى الغارات الإسرائيلية... والفارق أننا من يُقتل من بغداد إلى بيروت وصولا إلى غزة.

وما يحدث في غزة ليس فقط "عقابا" جماعيا، بل توافق على شطب مجتمع بكامله، وربما تكريس "صورة ذهنية" لعملية القطع داخل مدننا فلإلباس المقاومة زيا خاصا بها، فالعوقبة تجاه غزة يُراد لها أن تكون بمعنى واحد: "فهؤلاء الذين يقتلون هم أعداء السلام من الإسلاميين"...

هذه الصورة "القبيحة" التي تظهر اليوم وكأن "المقاومة" لها شخصية واحدة، بعد أن حمل قطار التبدل الفكر كل الصور التي رسمتها الإدارة الأمريكية عن الإرهاب، فمأزق غزة هو أزمة يمكن أن تصبح عنوانا لمرحلة بكاملها، متناسين أن ما يحدث لا علاقة له بـ"الإيمان" فهو يجري فوق جغرافية محددة، ولا يحمل سمة ضياع الهوية ما بين أفغانستان وباكستان.

ما يجري في غزة منفصل عن صراع حماس وفتح، وعن "هوية" المقاومة التي يتم اعدادها كل يوم في الأجندات السياسية، لأن مسرحه مجتمع يملك مستقبلا مثلما يملك تراثا، وهو أيضا صورة لخطوة جديدة في استبدال مفهوم "الوطن" لجعله فرقا وجماعات يفرقها الصراع على السماء.

"اسرائيل" التي تستبيح غزة تحال يوميا تكريس هذا الفصل، وربما يرسم الإعلام أيضا هذا الشكل من التفكير، بينما تدور المعارك على الأرض ولقمة العيش والحق في الحياة، فغزة بمواصفاتها "مخيم" كبير سيبقى محاصرا بحكم "الجغرافية" وخرائط التسوية، وطريقة تعامل "الرباعية"... وحصارها يمكن أن يبقى بشعارات مختلفة، لكنه اليوم يريد أن يخلق هذا النوع من الاستبدال، لتصبح هوية المقاومة من شكل خاص، وليصبح المعبر عنها له لون واحد... فهل الذين يسقطون في نابلس قادرون على كسر هذه المعادلة؟!!! وهل باستطاعة "النخب" العربية أن تبدل الصورة، أم سيبقى "الليبراليون الجدد" في معاقلهم ينتظرون "التغيير" الديمقراطي حتى ينطقوا؟!!

لغزة وجهان: الأول يقف أمامنا بشر يقتلون، والثاني صورة سياسية لصراع السياسة حتى تصبح "أنابوليس" و "خارطة الطريق" و "المبادرة العربية" عملية لا تنتهي من الاستقبالات "المبهجة" للرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، ولتصبح مصافحة عباس وألمرت خلاصة "الموت" الذي يلف نشاطنا العام... غزة في العتمة تلخص "ظلام مستقبلنا" ...