بيريس وكعادته في التلاعب بالكلمات، والتباكي على ضياع فرص السلام، حرص على التركيز في كلمته على ان التعايش مزدهر في المنطقة، والمشكلة الوحيدة تكمن في اولئك الذين يبذرون ’بذور الكراهية، وتعميق فجوة الخلافات’. وقال ’ان هؤلاء يذبحون الناس وكأنهم شياه’ ولذلك ’يجب التصدي لهم، وان نرفع رايات الاخوة، مما سيؤدي الى تحقيق فرص التعايش والسلام وقيام علاقات اقتصادية وثقافية تقدم رؤية للمنطقة ككل’.
كلام ’ملغوم’ يميط اللثام بطريقة او بأخرى عن الاستراتيجية التي تأمل اسرائيل وامريكا، وبعض الدول العربية، بتطبيقها في المنطقة، اي خلق تحالف عربي ـ اسرائيلي يتصدى لاولئك الذين يبذرون بذور الكراهية هذه، اي مقاومة الاحتلالات الاسرائيلية للأراضي والمقدسات العربية والاسلامية في فلسطين وسورية ولبنان.
من المؤكد ان بيــــريس لا يقصــــد اسرائيل عنـــدما يشير الى اولئك الذين يذبحــون الناس كالشياه، وانما يقصد الآخـــرين، اي العـــرب والمسلمـــين، فاسرائيل وقواتها تقصف اطفال غزة والضفة وجنوب لبنان بالورود والرياحين، وترسل لهم علب الحلوى والالعاب الالكترونية في الاعياد، وليس القنابل العنقودية والصواريخ من مختلف الاحجام والأوزان.
ولعلها مفارقة لافتة انه في الوقت الذي كان يتغنى فيه بيريس بالسلام والتعايش وحقوق الانسان من اجل ’اطفالنا’، كانت القوات الاسرائيلية تتوغل في قطاع غزة، وتقتل اربعة من الشبان، وترّمل نساءهم وتيتّم اطفالهم. والاكثر من ذلك ان حكومته اوقفت كل شحنات الوقود للقطاع، مما يعني اغراقه في ظلام دامس، وتعطل كل اسباب الحياة فيه، بما في ذلك غرف العمليات في المستشفيات المتهالكة بفعل الحصار.

ان هذه الحوارات السياسية التي تتم تحت مظلة تعايش الأديان، وتصالحها، وتعاون اتباعها، تصب في مصلحة الممارسات التوسعية الاسرائيلية، من حيث توفير المنابر للمسؤولين الاسرائيليين لكي يخاطبوا العالم كما لو انهم اناس ابرياء لم يرتكبوا ذنبا، ولم ينتهكوا حقوق الآخرين، بل ومبادئ المنظمة الدولية وقيمها التي يلقون كلماتهم تحت سقفها.
كنا نتمنى لو أن القادة العرب الذين تحدثوا قبل بيريس أو بعده، قد ذكّروا الرئيس الاسرائيلي بأن حكومته هي التي تسمّم أجواء المنطقة بسياساتها، وتحرم الأجيال الحالية والمقبلة من العيش الكريم، وتنشر الكراهية والأحقاد بين أبناء الديانات السماوية، عندما تقتل بدم بارد وتقلع الأشجار وتدمر المزروعات، وتغلق المعابر، وتقيم حواجز الذل والعار في مختلف أنحاء الضفة الغربية. ولكن لم نسمع منهم غير الأحاديث الناعمة عن الحوار والتعايش والسلام وثقافته التي يجب أن تسود.
ان أكثر ما يغيظنا، ويستفز مشاعرنا، كعرب ومسلمين، بل كبشر، هو اسهاب الرئيس الاسرائيلي في الحديث عن احترام حقوق الانسان في خطابه المذكور، الذي لقي تصفيقاً حاراً من رئيس الوفد الفلسطيني وأعضائه، مثلما ظهر عبر شاشات التلفزة مباشرة. أي أن الضحية تصفق للجلاد على سلخها. فقد نسي بيريس مثلما نسي أعضاء الوفد الفلسطيني الموقّرون، ان هناك احد عشر ألف أسير فلسطيني في معتقلات حكومة بيريس، وأربعة آلاف شهيد واربعين ألف جريح سقطوا برصاص القوات الاسرائيلية منذ توقيع اتفاقات أوسلو.
فهل اغلاق المعابر وتجويع واذلال مليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة واقامة ستمئة حاجز في الضفة الغربية لتحويل حياة أكثر من مليوني شخص إلى جحيم لا يطاق، وجعل أكثر من مئة ألف انسان في مدينة الخليل أسرى لارهاب أربعمئة مستوطن اسرائيلي، من قيم حقوق الانسان وثقافتها التي يريد بيريس نشرها في المنطقة؟

لا نعرف ماذا جرى ويجري في الغرف المغلقة، فقد كان واضحاً أن هناك تعليمات صارمة بابعاد الكاميرات ورجال الصحافة عن معظم الفعاليات، وشاهدنا أبشع أنواع الرقابة تمارس علينا كمشاهدين، حيث لم تنقل لنا الكاميرات تعبيرات وجوه العديد من الزعماء العرب المشاركين، اثناء القاء كلمة بيريس، تماماً مثلــما حدث أثـــناء لقاءات مؤتمر أنابوليس للسلام في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ولكن ما يمكن ان نتكهن به ان الاجواء السائدة هي اجواء تصالحية، وربما لم يكن من المناسب تعكيرها بالحديث عن قضايا مثل حصار غزة او الحفريات تحت المسجد الاقصى، او سقوط الشهداء بعـــد ذبحهم مثل الشياه بأحدث أدوات القتل الاسرائيلية.
نعم نحن اتباع إله واحد، وننتمي الى نسل سيدنا ابراهيم عليه السلام جدنا جميعاً، ولكن ما يمارسه احفاد هابيل من قتل لأهلنا، وتدمير لبيوتنا ومزروعاتنا، وتفرقة عنصرية لبعض من تمسكوا بأرضهم وقاوموا كل محاولات اقتلاعهم، لا يمت لسيدنا ابراهيم بأي صلة، وانما يسيء اليه والى قيم التسامح والعدالة والمساواة التي بشر بها.

مبادرة السلام السعودية التي كانت موضع ثناء بيريس اصبحت مبادرة عربية، اعتمدتها قمة بيروت عام 2002 بصورتها المعدلة، وخاصة الفقرة المتعلقة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، هذه المبادرة هي اقل من الحد الادنى من المطالب العربية من اجل سلام شامل، ولا يمكن التنازل عن اي من بنودها استجابة لأساليب المراوغة الاسرائيلية المعسولة.
حوار الأديان خطوة حضارية، ولكن يجب ان يتم بين العلماء والفقهاء من اتباع جميع الديانات، وعلى ارضية المساواة والرغبة في التعايش، والانتصار للضعفاء والمظلومين برفع الظلم عنهم. اما ان يشارك في هذا الحوار اناس اياديهم ملطخة بدماء الأبرياء، او حكام طغاة مستبدون، فهذا امر مرفوض ويعطي نتائج عكسية تماماً.
علينا ان نتحاور فيما بيننا، نحن ابناء العقيدة الواحدة اولاً، لتسوية خلافاتنا، وتحديد هوية اعدائنا وفقاً لشريعتنا وقيمنا، وتوحيد صفوفنا، ثم علينا بعد ذلك ان ننطلق لحوار الآخرين الذين يحتلون أرضنا وينتهكون اعراضنا، ومن موقع قوة، اما قبل ذلك فهو قفز على الثوابت، وخلق للمزيد من الخلافات والانقسامات.