هؤلاء الذين أغمضوا أعينهم, بلعوا الأكاذيب العابرة المخصصة لتشتيتنا, يغرقون بشكل عام فيما هو مثير للسخرية, بمجرد أن نعود إلى الوراء كي نتفحص افتراضاتهم من زاوية تاريخية وأخلاقية.

هذا ما حصل لكل الببغاوات, المقصود هنا الأغلبية الساحقة من وسائل الاعلام الغربية, حين كررت بمنتهى الغباء تصريحا مزيفا منسوبا للرئيس الايراني احمدي نجاد, جاء فيه أنه يرغب بإزالة اسرائيل من الخارطة, وهو اقتباس مريع, ناجم عن خطأ في الترجمة بكل بساطة
 [1].

وقد أقر بذلك نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي, دان ميريدور, في حديث له على قناة الجزيرة بتاريخ 14 فبراير 2012 بقوله: لم يعلن القادة الإيرانيون يوما عن أي نية بإزالة إسرائيل من الخارطة.

ألا يقتضي هذا الأمر من المضللين أن يقدموا اعتذارا؟

وكما سبق لي وتوقعت في اتجاه معاكس, فإن التقدم المذهل في المفاوضات الأخيرة بين إيران والولايات المتحدة (من حيث الجوهر) والذي أسفر عن توقيع خطة من قبل مجموعة ال5+1, في اجتماع اسطنبول, نتج عنه ثلاثة مفاعيل حاسمة:

1-التباعد مع روسيا ( بعد استلام القيصر الشمولي والديناميكي فلادي بوتين مقاليد الكرملين للمرة الثالثة)

2-انخفاض أسعار النفط ( وهو أمر مفيد في إعادة انتخاب أوباما في مواجهة بوش الثالث, ميت روني).

3-زعزعة بنية السلطة في اسرائيل المنقسمة بين صقور ( الثالوث نتنياهو-ليبرمان-ايهود باراك) الذين يتوعدون بشن حرب نووية أحادية الجانب ضد إيران, وحمائم من توليفة قوية تضم جهاز الاستخبارات الداخلي (شين بيت) والخارجي ( الموساد) الذين يعارضون جهارا, وبشكل فعال أي مغامرة عسكرية في الخليج الفارسي ( التي من شأنها, حسب رأيي, أن تفضي إلى حرب عالمية ثالثة).

في حوار له مع الاعلامي آموس هاريل, وضع رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الاسرائيلي, بيني غانتز, حدا نهائيا للإمبراطورية المتعددة الأساطير, التي انتهكت حرمتها آلة بروباغندا ثالوث الصقور, نتنياهو-ليبرمان-باراك
 [2].

لايعتقد الجنرال غانتز أن ايران ستتخذ يوما ما, قرارا بتصنيع قنبلة نووية. يقول: " أعتقد أن القادة الايرانيون يشكلون مجموعة من الناس العقلاء". رغم وجود من أكد لنا أن شيعة ايران هم مجانين.

برنارد لويس, التسعيني, الذي يدعي أنه مؤرخ متخصص, سبق له أن قدم لنا منذ عشر سنوات, تأكيدات بأن اسرائيل على وشك أن تلقي علينا قنبلتها النووية, وهي لم تمتلكها حتى وقتنا الحالي. فمن هو الأكثر جنونا في نهاية المطاف؟

يعتبر بيني غانتز أن العقوبات على ايران كافية, وأن المرشد الأعلى علي خامنئي, الذي يعود إليه قرار تصنيع القنبلة النووية, ليس مستعدا لاتخاذ هذه الخطوة.

يؤكد الصحفي آموس هاريل, أن الجنرال غانتز أثبت أنه حكيم, حين ترك الأبواب مفتوحة أمام المفاوضات مع ايران, مشيرا أن خطاب هذا العسكري, يتجاوز بشكل عام المقارنات مع الهولوكوست العزيز على قلوب السياسيين الاسرائيليين, لكونه, " بعيد عن البلاغة المسرحية لرئيس الوزراء نتنياهو", ولغته الهستيرية.

بعد يومين من تصريحات بيني غانتز, وجه, يوفال ديسكين, الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الداخلي (شين بيت) انتقادات لاذعة لنتنياهو وايهود باراك في آن واحد [3]واصفا إياهما" بغير جديرين بالحكم, طالما أنهما أسيرا دور تبشيري يهودي- مسيحي".

فنتنياهو ليس إلا مسيحا صغيرا في قيسارية, أما ايهود باراك فهو مثله على سلم أبراج أكيروف ( هناك حيث كان يملك شقة فارهة باعها ب 7 مليون دولار, محققا ربحا صافيا فيها 4 مليون دولار).

وبالمناسبة, فقد لام الجاسوس الاسرائيلي السابق نتنياهو على " تضليل الأخير الرأي العام" فيما يخص قنبلة ايران النووية التي لاتمتلكها, بقوله: في حال شنت اسرائيل هجومها, فإن أول شيء سوف تسعى إليه ايران, سريعا, هو قنبلة نووية
 [4].

يؤكد يوفال ديسكين, أن "اسرائيل أصبحت خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة, أكثر عنصرية من السابق", وأن نتنياهو غير مكترث بالتفاوض مع الفلسطينيين حول السلام [5].

في افتتاحيتها الصادرة تحت عنوان " اصغوا إلى ديسكين", اعتبرت صحيفة هآريتس أن تعليقات الجنرال تفضح الحكومة حين نضيفها إلى ما كشف عنه مائير داغان (الرئيس الأسبق لجهاز الموساد) الذي وصف الهجوم ضد ايران بحماقة كبرى, وتصريحات الجنرال غابي اشكنازي ( الرئيس الأسبق لهيئة الأركان العامة) الذي كشف ضحالة سلوك القادة السياسيين بقوله: " يحاولون أن يبيعوا صور (ابينال) للناخبين" .

أما أنشل فيفر, فقد أشار إلى أن الانتقادات التي وجهها الرئيس الأسبق لجهاز شين بيت "تكشف أن رأس المؤسسة الأمنية في اسرائيل, ليست على اتفاق مع نتنياهو وباراك في طريقتهما بإدارة الملف الإيراني.

ويتساءل مركز التفكير الاستراتيجي الأوروبي, دو دفنسا بتاريخ 2 أيار- مايو 2012 , عما إذا كان نتنياهو يشكل تهديدا حقيقيا يلقي ثقله على وجود اسرائيل, بينما تدور رحى حرب أهلية بين الادارة السياسية والأمنية.

يضاف إلى كل ذلك, الانتقادات اللاذعة لنتنياهو التي وجهتها له تسيبي ليفني, موظفة جهاز الموساد قديما, ووزيرة الخارجية السابقة, وزعيمة حزب كاديما المعارض, التي شنت هجوما قويا على السياسة اليهودية-المسيحية التي ينتهجها رئيس الوزراء نتنياهو ضد ايران, التي من شأنها أن تشكل تهديدا وجوديا لإسرائيل, لأنها يمكن أن تفضي إلى توترات متفاقمة, واحتمال نشوب نزاع ذي ارتدادات كارثية على اسرائيل.

روسيا اليوم تمددت بتاريخ الأول من أيار-مايو على الانتقادات العنيفة التي وجهها كل من تسيبي ليفني وايهود أولمرت, ضد نتنياهو وسياسته الحربية بخصوص ايران. وقد بلغ الأمر عند ليفني أن ضربت الطاولة قائلة: " إن حكومة نتنياهو تعرض وجود الدولة اليهودية إلى مخاطر مميتة, في تجاهلها للاستياء الدولي المتفاقم".

غير أن النافذة التي فتحت في اسطنبول بين ايران والولايات المتحدة ( جوهريا) عبر مفاوضات مفيدة وبناءة, يمكنها أن تفضي إلى توافق تاريخي خلال الاجتماع القادم المزمع عقده في بغداد, نهاية شهر أيار-مايو الجاري.

لقد أفضى اجتماع اسطنبول إلى احداث صدع بين ثالوث صقور الحكومة, نتنياهو-ليبرمان-باراك, من جهة, و الحمائم, الذين يمكن العثور عليهم حاليا في أجهزة الأمن الوطني الاسرائيلي, من جهة أخرى.

يصف "دو دفنسا" الوضع القائم ب"الحرب الأهلية" [6]. إذ أنه من المثير للاهتمام أن يؤدي الاتفاق بين ايران والولايات المتحدة, وهو أمر غير مستبعد, إلى تقارب بين أجهزة الأمن الاسرائيلية ونظيراتها الأمريكية, مع العمل على توسيع الهوة أكثر فأكثر بين أوباما ونتنياهو, وإيقونة المحافظين الجدد الشتراوسيين, المشتبه به دائما على أجندة الحرب لدى الحزب الجمهوري, وزعيمه بوش الثالث, ( ميت روني).

وحده نتنياهو من يتحمل مسؤولية وقوعه في فخ صهيونيته المسيحية-اليهودية, بعد أن استنزف حلفاءه الذين كانوا إلى ذلك التاريخ, صامدون, بدءا من وول ستريت, مرورا بالكونغرس, وهوليود, ولاس فيغاس, وانتهاء بوسائل الاعلام.

لقد دفعه لاهوته الأحادي إلى التقليل من شأن الادارة الأمريكية الحالية, والاستخفاف بذكاء أوباما الذي تعامل بحذر مع مضايقات رئيس الوزراء الاسرائيلي, وتدخلاته السافرة.

هناك ما هو أسوأ من ذلك: " إن مسيح قيسارية" حسب يوفال ديسكين, هو في طور الدخول بمواجهة خطرة مع البنتاغون, الذي لن يتوانى عن القطع معه بشكل فج في أي لحظة. لكن أكثر مايدهشني في كل هذا, هو استسلام مسيح أبراج أكيروف, الجنرال ايهود باراك, لهرطقات نتنياهو اللاهوتية, إذ من المعروف أن عسكر الدولة الاسرائيلية يشكلون, بشكل عام, الجانب الأكثر جدية وعقلانية في البنية الفوقية.

سوف أروي ذات يوم, عندما يحين الوقت, وقائع حوار متحضر جدا مع واحد من هذه القمم, ذات العيار الثقيل بشكل حقيقي

ترجمة
سعيد هلال الشريفي
مصادر
لا جورنادا (المكسيك)