في حلب ذاكرة طويلة لا تتوقف عند الحصار الممتد على أكثر من عام، وفي الشهباء كلمات لا تتوقف عند حدود الجلابيب القصيرة
حتى لو كانت حملة تجويع لكنني سأفكر بها على طريقتي، وسأحاول رسم ملامح الشقاء المتشكلة عبر عامين تقريبا، فالجوع الحلبي يختلف عن كل شيء، واللون الحلبي ينتقل بي عبر التاريخ إلى نقطة صنع رغيف الخيز، فاستسلم لرائحة لم نعد نستطيع استنشاقها، لأنها في النهاية أصبحت مدفونة داخل الأبنية الاسمنتية، فالرغيف اليوم هو "الرؤية" التي توحد الجميع ليس من الجوع بل من قدرة البعض على انتهاك أجمل ما قُدم لليشرية منذ فجر التاريخ.
من يوقف الرغيف على الحواجز هو حقيقية يحتجز التاريخ والحضارة، ويضع المستقبل رهن الذقون العفنة، وربما يبتسم لعاصفة الرمل القادمة من ملامح "الجربا"، فالجوع هو في النهاية بدعة إنسانية اخترعها من لم يتعلم كرم السهول وحفاوة الجبال، وهو أيضا لم يتعرف على ملامح حلب عندما يتم حصارها فهل قدر نلك المدينة سيقى محشورا في التاريخ القابع ما بين بيزنطة وتحول ملامحها إلى اسطنبول؟ وهل تلك المدينة تتعرف على "الجوع السعودي" والحرمان التركي بعد أن تم اختراع "الجربا" كي يقف على رؤوس أصابع سوداء يرقص عليها بلحن صحراوي وبملامح الرمل والقحط.
في حلب ذاكرة طويلة لا تتوقف عند الحصار الممتد على أكثر من عام، وفي الشهباء كلمات لا تتوقف عند حدود الجلابيب القصيرة والكلمات العربية المكسرة، ولا تنته عند محطة "الطوشة" التي جعلتها ركاما، فهي تلك المدينة القادرة على الغناء من الوجع وعلى الرقص في لحظة المجاعة القاسية، وهي المدينة التي كانت لا تعرف أن في قاموس الحقد ما يحول رغيف الخبز إلى "رؤيا" وينقلنا نحو التفكير بقدر ينطلق بنا نحو روح مختلفة عما سبق.
غصة الألم لم تبلغ حشرجة الموت والمدن المحاصرة تعرف أنها الباقية، وأن الأيام قد تطوي أجيال يعصرها الألم لكن الأهم أن مساحة المستقبل تورق في كل لحظة، فإذا كانت الحرب قاسية فهي أيضا مولدة حضارات وهي التي تدفع بنا كي نفكر والجوع يعتصر أجسادنا، فهل أقول طوبى لأهل حلب؟! أم طوبى لسورية التي تطعم الجميع ثم يخترقها الجوع ويهاجمها الحق من الجهات الأربع؟!
رغيف الخبز وقبل عامين كان هلى لسان أمير صحراوي، فهو الذي بشرنا بالجوع يوم كنا مكتفين على الأقل بما نملكه، وهو الذي قال أنا أطفالنا يجوعون في لحظات كانت ابتساماتهم قادرة على تزيين حياتنا، فهل كانت سورية كابوسه المستمر؟ أم أنه يحسد السهول على عطائها؟
ما نملكه هو أرضنا رغم الجوع، وما نحن قادرون عليه هو الأمل في مواجهة الحقد، وعلى أصحاب الصحراء أن يشربوا نفطهم لأننا قادرون على اقتسام الرغيف دون ذل.