تحرك رجل السلام إرييل شارون بعد الصور الفظيعة التي بثتها شبكات التلفزة العالمية عن الاعتداء الوحشي الذي قام به مستوطنون يهود في قطاع غزة يوم الأربعاء الماضي ضد فتى فلسطيني أعزل. كانت سوائب المستوطنين اليهود في القطاع قد قامت بسحق الفتى الذي لا يتجاوز عمره الستة عشر عاماً. ضرب المستوطنون الشاب بقضبان من حديد حتى بعد أن فقد وعيه وتدفق الدم من رأسه. أشارت دوائر يسارية وصحفية في إسرائيل إلى لامبالاة الشرطة بما جرى وصولاً إلى حد التواطؤ، إذ أن جندياً واقفاً إلى جوار الفتى المصاب قد منع مسعفاً من تقديم المساعدة للشاب الفلسطيني.

سارع شارون بعد تلك التطورات فأصدر أوامره باعتقال المعتدين، وأدلى بتصريحات لكبريات الصحف الإسرائيلية تعهد فيها بعدم تكرار مثل هذه الأعمال، وقال إن «المعركة الآن ليست على خطة الانفصال، وإنما على صورة إسرائيل ومستقبلها، ويحظر علينا قطعاً السماح لجماعات منفلتة بمحاولة السيطرة على حياة دولة إسرائيل، وينبغي العمل واتخاذ كل الخطوات لوقف هذا الانفلات». بل لقد أضاف شارون انتقاده لوزرائه الذين التزموا الصمت حيال قيام المستوطنين بالمس برجال الشرطة والجيش، وزاد أن أصدر أوامره بإجراء تحقيق مستفيض في انفلات المستوطنين في قطاع غزة والعمل “البربري الوحشي” الذي تعرض له الفتى الفلسطيني. وصف عضو الكنيست المنتمي لحركة “ميريتز” اليسارية يوسي سريد إيعاز شارون باعتقال المعتدين بالقول: “أي دولة تعيسة هذه التي تنتظر فيها الشرطة صدور قرار عن رئيس الحكومة كي تعتقل سوائب المستوطنين والكهانيين” «نسبة إلى منظمة كاهانا جي العنصرية اليهودية التي ذكرت تقارير أن عناصرها هي المسؤولة عما جرى».

لحق وزير الدفاع برئيسه في الانتصار لمعاني "السلام والتعايش" فصدق على أمر قائد المنطقة الجنوبية في الجيش بإعلان قطاع غزة منطقة مغلقة لمدة 72 ساعة بهدف منع وصول مستوطنين متطرفين من أنحاء الضفة إلى القطاع لمؤازرة معارضي خطة فك الارتباط، وبعد ساعة من القرار اقتحمت قوات من الجيش بؤرة استيطانية كان مستوطنون قد استولوا عليها وتحصنوا فيها لمدة يومين وقامت بإخلائهم بالقوة، وإن كان الجيش الإسرائيلي قد خضع لاحقاً لضغوط المستوطنين، وتخلى عن إعلان غزة منطقة مغلقة، واستبدل بهذا الإعلان منع دخول الزوار الذين يحملون عتاداً قد يستخدمه مستوطنو القطاع بشكل عنيف لمعارضة الإخلاء في إشارة واضحة لصراع حقيقي يدور داخل إسرائيل بين قوى العقل وقوى التطرف حتى على خطوة تكتيكية كالانسحاب من قطاع غزة.

هكذا حاول شارون كعادته أن يقلب المائدة لصالحه، فبدا في أعقاب تلك الأحداث في صورة رجل السلام الحقيقي ذي الرؤية الاستراتيجية المصمم على تنفيذها، والمتصدي لأي انفلات يقدم عليه غلاة المتطرفين المعارضين له إلى حد وصف عملهم ضد الفتى الفلسطيني الأعزل بالبربري والوحشي، وكأن قواته لم تنفق ما يزيد على الخمس سنوات وهي تقتل الفلسطينيين يومياً، وتدمر منازلهم، وتجرف أراضيهم، بل وتقتلع حياتهم كلها من جذورها.

يقتضي الأمر إذن إمعان نظر في كل ما جرى ويجري كي نعرف أين نحن وإلى أين نذهب؟ خلاصة الأمر ببساطة شديدة أن شارون –بغض النظر عن تاريخه الدموي- قد أدرك بخبرته العسكرية وما توفر له من فطنة سياسية أن دوام بقائه في قطاع غزة من المحال، خاصة وقد تصاعدت المقاومة فيه على نحو نوعي في الوقت الذي أخفقت فيه القوات الإسرائيلية تماماً، على بشاعة ما استخدمته من وسائل، في وضع حد لهذه المقاومة، ومن ثمّ أصبح الحل الوحيد هو إخلاء قطاع غزة ومستوطناته بعدما أصبح يستهلك من أمن إسرائيل أكثر مما ينتج، وذلك على أمل التفرغ بقوة أكبر لتنفيذ ما بقي من الحلم الصهيوني بإقامة دولة على كامل أرض فلسطين.

سوف يسارع البعض كالمعتاد إلى تفنيد مثل هذه التفسيرات، والقطع بأن السبب في نية الانسحاب الإسرائيلي من غزة هو نوايا طيبة واتجاهات أصيلة داخل دولة إسرائيل بزعامة شارون تدفع كلها باتجاه سلام مع الفلسطينيين، وهو ما تدحضه أفعال المستوطنين المعادين لخطوة الانسحاب من غزة حتى الآن، بل إن شارون نفسه يدحض مثل هذا التفسير بتصريحات له يوم الخميس الماضي جدد فيها رغبته بالانسحاب من قطاع غزة باعتباره «مسألة أساسية لمستقبل إسرائيل ستعود عليها بفائدة اقتصادية جمة، إذ بتنا نلمس تحركاً في السياحة والاستثمارات الأجنبية»، وهو اعتراف ضمني من شارون بأن ركوداً اقتصادياً ما قد أصاب إسرائيل من جراء المقاومة الفلسطينية بحيث إن التهدئة الناجمة عن الانسحاب من غزة يمكن أن يكون لها مردود اقتصادي جيد.

الأكثر من هذا أن شارون قد كرر في التصريحات نفسها أن خطة الانسحاب من غزة التي تقوم على افتراض ألا أمل لغالبية يهودية في القطاع الذي لن يكون جزءاً من إسرائيل في إطار أي تسوية دائمة مع الفلسطينيين- تتيح لإسرائيل تنمية منطقتي الجليل والنقب (داخل الخط الأخضر)، أي تهويد المنطقتين للحيلولة دون حصول غالبية فلسطينية فيهما، كما أنها تتيح لإسرائيل أيضاً تكريس طاقاتها لتوسيع الاستيطان في القدس والتجمعات الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية.

معنى هذا بوضوح شديد واختصار تام أن إسرائيل سوف تنسحب من قطاع غزة –إن فعلت- مضطرة، وأن السبب في هذا ببساطة هو المقاومة الفلسطينية التي فشلت إسرائيل في إخضاعها، والتي أفضت إلى مردودات سلبية على الأقل بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي، وأن النخبة الحاكمة في إسرائيل بحكم ضيق الأفق الاستعماري المعتاد تتصور أن الانسحاب من قطاع غزة يمكن أن يكون نهاية المطاف بالنسبة لها على أساس أنها ستكون أكثر قدرة على تركيز جهودها الاستيطانية في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وعلى مواجهة المقاومة الفلسطينية في هذه المناطق.

تعجز هذه النخبة كما عجزت نخب استعمارية سابقة عن أن تدرك أن خطاها مهما بدا طابعها التكتيكي تشكل حلقة في سلسلة من التراجعات التي اضطرت إليها عبر سنوات سابقة عديدة ولظروف مطابقة في طبيعتها. هكذا أخلت إسرائيل سيناء المصرية بفعل الأداء المصري في أعقاب حرب 1967 والذي وصل إلى ذروته بحربي الاستنزاف وأكتوبر، وأخفقت إسرائيل في الاحتفاظ بلبنان تحت سيطرتها بعد احتلالها له في عام1982، ولم تتمكن من الاحتفاظ إلا بما كانت تسميه بالشريط الحدودي الآمن في الجنوب الذي كانت قد احتلته منذ عام 1978 إلى أن اضطرت إلى إخلائه بدورها تحت وطأة المقاومة المسلحة التي قادها حزب الله في مايو2000، وها هي الآن تنوي إخلاء قطاع غزة للأسباب نفسها.

يعني كل ما سبق من ناحية أن حركة التحرر العربي والفلسطيني تمضي في المسار المعتاد لمثيلاتها في الخبرة التاريخية المعاصرة: تراكم من الإنجازات البطيئة وصولاً إلى النصر النهائي، ومن ناحية أخرى أن هذه الحركة ما زالت مواجهة بمهام بالغة الصعوبة كي تكون قادرة على إقناع مزيد من قطاعات المجتمع الإسرائيلي بأن التسوية المتوازنة –ولا نقول العادلة- هي الحد الأدنى الذي يمكن من التوصل إلى استقرار تنعم به الدولة العبرية.

ولكي تنجح حركة التحرر الفلسطيني في مواجهة هذه المهام والوفاء بها عليها أن تتمسك بخيار المقاومة بشتى صورها وأشكالها، وهو الخيار الذي يعود له وحده الفضل فيما تم من إنجازات إيجابية على مسار الصراع من المنظور الفلسطيني عبر عقود من الزمن، وأن تحرص في هذه اللحظة بالذات على وحدتها الوطنية بغض النظر عن الأشكال التنظيمية المجسدة لهذه الوحدة- كي لا يتيح القرار الفلسطيني أدنى ثغرة يمكن لإسرائيل أن تنفذ منها.

أما الظهير العربي الغائب للنضال الفلسطيني فلا أقل من أن يتحلى برؤية استراتيجية سليمة، فيضع الخطة الإسرائيلية للانسحاب من قطاع غزة وتفكيك مستوطناتها في سياقها الصحيح باعتبارها خطوة تكتيكية اضطرت إليها إسرائيل وليست بادرة تحول استراتيجي في السياسة الإسرائيلية تجاه السلام تستحق مزيداً من التنازلات وصولاً إلى أن يصرح وزير إسرائيلي في كبرى العواصم العربية بما يؤكد حق إسرائيل في البناء في القدس الشرقية والبقاء هناك.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)