اعلن لبنانيون بعد التطورات الضخمة التي شهدتها بلادهم منذ تشرين الاول الماضي وكان ابرزها على الاطلاق انسحاب سوريا منها في السادس والعشرين من نيسان الماضي تمسكهم باتفاق الطائف الذي وضع عام 1990 حداً للحروب المتنوعة التي عصفت بهم نيفاً و15 سنة. والاتفاق المذكور على ما يعرف الجميع وضع نظاماً للحكم في لبنان تشترك فيه او يفترض ان تشترك فيه مكونات الشعب اللبناني كلها بشيء من التوازن والمساواة المستندين طبعاً الى حجم كل منها اولاًً واخيراًً. وقد ترجموا التمسك المشار اليه بالانتخابات النيابية الاخيرة التي اجريت قبل اسابيع ثم في الحكومة الجديدة التي ألفها الوزير السابق فؤاد السنيورة وان بعد "لأي وجهد" على حد ما قاله الاساقفة والمطارنة الموارنة بعد اجتماعهم الاخير في بكركي. الا ان الممارسات السياسية والمواقف المتنوعة من القضايا المطروحة والمشكلات القائمة لا توحي أي صدق أو بالاحرى أي جدية في التمسك باتفاق الطائف المشار اليه اعلاه. ذلك ان التمسك هو بالعنوان فقط. اما التفاصيل التي هي أكثر اهمية من العنوان او من العناوين وخصوصاً في وطن كلبنان فكانت موضع خلاف أثناء المحاولات غير الناجحة لتطبيق الطائف منذ 1990. وهي لا تزال الآن موضع خلاف رغم كل الكلام العلني المخالف لذلك. ولعل اكثر ما يؤكد هذه الحقيقة الصعبة او المرة هو تناول معظم الفئات اللبنانية صيغة الحكم في لبنان بطريقة تشير الى لا نهائية صيغة اتفاق الطائف. وهو ايضاً تصرفهم على نحو يؤكد لا نهائيته. هذا التصرف يشير الى ميل الى الصيغة الفيديرالية في شكل او في آخر، ويشير في الوقت نفسه الى اعتبار كثيرين من طوائف ومذاهب متنوعة اسلامية ومسيحية ان لبنان يسير في الطريق اما نحو فيديرالية الطوائف أو نحو فيديرالية واقعية بين الطوائف والمذاهب. واللافت في كل ذلك ان الحديث عن هذا الأمر صار يخلو من الاستهجان او الرفض او التنديد خلافاً لما كانت عليه الحال في السابق سواء أثناء الحروب الطويلة او اثناء السنوات الخمس عشرة التي اعقبتها.

هل هذا الكلام في محله؟

يؤكد صحة هذا الكلام متابعون عن قرب للأوضاع في لبنان بأدق تفاصيلها وخلفياتها وآخرون منغمسون في العمل السياسي من خلال شرح تصورهم لمواقف الطوائف اللبنانية الأساسية سواء من نهائية صيغة الطائف أو من البديل الفيديرالي منها. فالمسيحيون وفي مقدمهم الموارنة، لم يخفوا ميلهم نحو الصيغة الفيديرالية اثناء الحروب المشؤومة عبر القوى التي كانت تستقطب أكثريتهم الساحقة في تلك المرحلة. وهم لا يزالون على هذا الميل وان كانوا يكتفون بالتلميح الى هذا الأمر ويتحاشون التصريح لأن وضعهم صعب بعد الهزيمة العسكرية التي تلقوا عام 1990 والتهميش السياسي الذي لحقهم في المرحلة التي تلت الحروب بسبب عدم احترام نصوص الطائف وروحه، وكذلك لأن العدد أي الديموغرافيا لم يعد في مصلحتهم. ومن التلميحات حديث سيد بكركي البطريرك صفير عن "اتحادية" ما للبنان الجديد. ومنها ايضاً عدم رفض احد ابرز نواب "القوات اللبنانية" في مقابلة تلفزيونية الفيديرالية كخيار رغم انه تلافى الخوض فيه تفصيلاً لاعتبارات معروفة. اما خروج الدكتور سمير جعجع من السجن فمن اسبابه، على حد قول المتابعين المذكورين، اعادة فتح ابواب الوضع اللبناني أمام الفيديرالية. والمسلمون الشيعة لا يتحدثون بالفيديرالية لكنهم يتصرفون على اساس انها امر واقع يمارسونه يومياً. وهم بذلك يمارسون ما مارسه المسيحيون وخصوصاً الموارنة في مراحل سابقة أي يعتمدون قاعدة ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم. فهم من جهة يملكون كل "الادوات " التي تمكنهم من السيطرة على مناطقهم اذا جاز التعبير ويعملون لكي تكون لهم الكلمة الاقوى في الوضع اللبناني كله. واذا تعذر ذلك فان مناطقهم موجودة وقدرتهم على التدخل في غيرها موجودة ايضاً. والوضع المثالي الذي يمكن ان يوفر اسباب النجاح لسياسة كهذه هو الفوضى المنظمة أي التي لا تطيح المكاسب الفئوية ولا تدمر الدولة التي يمكن بواسطتها تأمين المزيد من المكاسب. وهي السياسة التي تمارسها حالياً الفاعليات الشيعية في رأي المتابعين اياهم. أما السنّة فمع اتفاق الطائف على كل ما يقول هؤلاء وضد الفيديرالية لاعتقادهم انها تهمشهم وخصوصاً في حال توافقت الاقليات في لبنان أو بالأحرى الفئات التي تعتبر نفسها اقليات ليس داخله فحسب بل في العالمين العربي والاسلامي.

ما مدى صحة كلام متابعي الاوضاع في لبنان والآخرين المنغمسين في العمل السياسي داخله؟

لا يمكن انكار ان فكرة تعديل الصيغة اللبنانية تراود جهات لبنانية عدة مستفيدة من التطورات التي حصلت في لبنان بعد 16 نيسان الماضي وفي ظل الفيديرالية التي تعد للعراق والكلام المتداول عن انزال استراتيجيات تقسم المنطقة دويلات طائفية ومذهبية من الرفوف الى طاولات البحث الجدي في أكثر من عاصمة اقليمية ودولية. لكن في الوقت نفسه لا يبدو ان ترجمة هذه الفكرة سهلة لأسباب عدة. منها ان المسيحيين قد لا يكونون مستعدين لقيادة مشروع الفيديرالية وحدهم لأن وضعهم لم يعد يسمح بذلك، ولأن أي خطأ في الحساب أو أي سوء في التقدير سينهي دورهم في البلاد. فضلاً عن ان الزعيم الأبرز لهم ميشال عون يجهر بالتمسك بوحدة لبنان وبلا طائفيته. والزعيم البارز الآخر لهم سمير جعجع اكد فور خروجه من السجن استمرار التزامه الطائف وتمسكه بتحالفاته الاسلامية. ومنها ايضاً ان المسلمين عموماً ورغم التباينات الكثيرة في ما بينهم قد لا يكونون مستعدين للاقتتال من أجل صيغة "تقسم" البلاد عملياً في وقت يستطيعون حكمه مباشرة وبالتساوي. ومنها ان الفيديرالية لا يمكن ان تتم على البارد أي سلماً. واللبنانيون تعبوا من الحرب. ولا يبدو ان المجتمع الدولي والاقليمي سيشجعهم على الحرب او يدفعهم اليها كما حصل في السابق او على الاقل معظمه علماً ان انكفاء اميركا عن العراق وان بعد اعلان "انتصار" ما قد يطلق حرباً مذهبية داخلية "تعدي" محيطه وكل دول المنطقة.

الا ان ذلك كله على صحته لا يحول دون اعراب المتابعين والمنغمسين انفسهم عن اقتناعهم بأن "الفيديرالية" آتـية الى لبنان وربما الى المنطقة، و بأن وصول لبنان اليها سيتم سلماً بمقدار قليل من العنف يتمثل باستمرار التفجيرات والاغتيالات بين حين وآخر وبردود الفعل الشعبية عليها. طبعاً لا يمكن أحداً ان يفصل في هذا الأمر. لكن ما يمكن تأكيده هو ان الوضع خطير جداً في البلاد، وان الصراع بين الماضي والحاضر فيه متأجج رغم الكلام المعسول الذي يتبادله الجميع في الداخل ومع الخارج. وان ذلك لا بد ان يؤثر على المستقبل.

مصادر
النهار (لبنان)