كانت الذاكرة تستحضر الشيخ رفاعة الطهطاوي في أول لقاء له مع ثقافة "الآخر" .. عندما ظهرت له باريس كعالم آخر وجديد .. وإذا كانت دهشة الطهطاوي كبيرة، فإن كافة أجهزة الاتصال الحديثة لا تمنع أي لقاء مع الآخر من سمات الدهشة ... ما اذكره أن كتاب "الإبريز في تلخيص باريز" لم يكن بحوزتي عندما تركت لندن عائدا إلى سورية .. بل كنت أقرأ كتابا آخر بعنوان "قصة سلاح الجو الإسرائيلي" ..

ما الذي يحكيه الكاتب !! إنها قصة هزائم متتالية للجيوش العربية .. لكن المعلومة بذاتها ليست هدفا، فمعظمنا يعرف قصة التفوق الجوي الإسرائيلي، هذا إذا لم يختربها في احد الحروب .. ما ينقله الكتاب أيضا هو أزمة إسرائيل وسط "جغرافية معادية"، وبغض النظر عن حقيقة التشخيص لكنه قاد وفي المراحل المبكرة لظهور "إسرائيل" إلى نقطتين:

الأولى: كيف يمكن خلق الكسب الاستراتيجي الرادع لأي محاولة عربية لإنهاء الدولة .. هذا السؤال كان محور ظهور سلاح الجو في "إسرائيل". معتبرين أن القضية الاستراتيجية هي التفوق الجوي. ربما تكون الإجابة اليوم سهلة، لكنها في عام 1948 تطلبت تقييما عسكريا وسياسيا، وجهدا متواصلا لاستقطاب خيرة طياري العالم والمعروفين اصطلاحا بـ"الآس" (وهو الرقم القوي في لعبة الشدة). والكسب الاستراتيجي الثاني كان خلق قوة نووية إسرائيلية تمثلت ببناء مفاعل ديمونة.

الثاني: ترسيخ الكسب الاستراتيجي على قاعدة واسعة مرتبطة بحركة الغرب الصناعية، وبما ان "إسرائيل" لا تملك الموارد الاقتصادية، فكان لا بد لها من خلق هذا الارتباط عبر استثمار استراتيجي هو "البحث العلمي" والمرتبط عضويا بالأبحاث العسكرية. ولا يهم هنا درجة الحقيقة في قدرة "إسرائيل" على البحث العلمي، أو أنها تتلقى مساعدات في هذا المجال. لكنها على الأقل أسست البنية لمثل هذا الاستثمار.

بعد أكثر من نصف قرن على محاولات البحث الأولى لخلق كسب استراتيجي، فإن "إسرائيل" تعرف موقعها تماما في الخارطة الإقليمية والدولية، واستثمارها الاستراتيجي يرتبط بهذه المعرفة .. فهل يمكن خرق هذا الترابط !!

إن السؤال اليوم لا معنى له وسط وضعية التخبط التي نعيشها، فقبل التفكير بأننا على الخارطة جغرافية تستهدفها الضغوط، وان صورتنا الافتراضية المستمدة من الخيال التاريخي لم تعد صالحة في زمن العولمة، سيبقى السؤال عن الآخر والعدو مجرد فانتازايا .. وستبقى إرادتنا مقيدة بهذا الخيال التراثي الذي يستمد الوهم من الشجاعة التي تظهر في قدرتنا على البقاء.

قبل التفكير بان علينا إيجاد الاستثمار الاستراتيجي لشخصيتنا وطبيعتنا فإن سورية الغد ستبقى في مدار الاحتمالات المفتوحة .. وإذا لم يصبح الإيمان بالمستقبل بحثا جديا عن الصورة والقدرة التي نريدها وقادرين على تحقيقها، فربما علينا التوقف .. إبقاء "القضاء والقدر" قدرة معرفية تسلب الأجيال مستقبلها.

مصادر
سورية الغد (دمشق)