ظاهريا همدت همة فرنسا في شهر آب، فالعطلة الصيفية تطغى على كل شيء وتحول السياسة إلى كواليس، وعادة يستفيد السياسيون من العطلة لإعادة صياغة خطابهم السياسي وترتيب أوراقهم .

وهكذا فعل الرئيس ساركوزي الذي اختار عطلة صاخبة ضيفا على رئيس الولايات المتحدة جورج بوش وعائلته.

العارفون في خبايا الأمور يؤكدون أنها عطلة عمل بامتياز فالشهرين اللذين مرا على باريس وسياستها الخارجية كانت مقلقة للولايات المتحدة ورئيسها جورج دبليو بوش فكل سياسته الخارجية وكل ما كان يعتقده انتصارا بات مشكوكا به بل بات يدخل في باب الهزائم. سواء في أفغانستان أو العراق أو لبنان أو فلسطين. وحتى في الدول التي حارب بها وحاربها بضغط منخفض، على امتداد العالم العربي من مشرقه إلى مغربه من مياه الخليج إلى مياه المحيط وصحاريهما. بينما كان الرئيس ساركوزي يتلمس آثار هذه الحروب صغيرها وكبيرها لعله يرى موطئ قدم فيها.

الرئيس الفرنسي، الذي يريد التغيير حتما، لكنه كعادته لا يريد أن يتحمل عبء خسارة لم يشارك في صنعها، وحروب لن يحصد انتصاراتها أبدا، مثله مثل العديد من قيادات المحافظين الجدد وقيادات الولايات المتحدة التي تفكر بالخروج من المأزق قبل أن يتحول إلى كابوس خاصة تلك القيادات التي لم تشارك بالقرارات التاريخية التي نفذها الرئيس بوش.

لذا اختار أن يكون واضحا مع حليفه الأمريكي، وهو يعرف مسبقا أن الرئيس بوش ليس جاهزا بعد للاستماع والاهتمام بل ما زال قانعا بلعبة "الإملاءات" التي انتشرت كعرف في البيت الأبيض وما زال مسرورا أن يكون واجهة للغرف السرية في الإدارة الأمريكية.

والرئيس الفرنسي يعرف ذلك، ولكن لا بد له أن يقول ما عنده ليبدأ عهده في نهاية الشهر الجاري بشكل واضح مع شبكته الدبلوماسية. حيث سينعقد مؤتمر سفراء فرنسا في العالم والكل يتهيأ لسماع ملامح السياسة الخارجية الجديدة لعهد ساركوزي، حيث يعرف الجميع أن ساركوزي يؤمن أن لا سياسة خارجية فاعلة ما لم تأخذ بعين الاعتبار وضع الولايات المتحدة في العالم.

ويعرف الرئيس ساركوزي أن الأشهر الست القادمة أشهر حاسمة في العالم حيث أن على إدارة بوش أن تقفل كل الملفات العالقة، أو تحرقها. وأشهر حاسمة بالنسبة لساركوزي حيث أنه مطالب بتحديد سياسته بالضبط من هذا الاستحقاق الأمريكي.

ويحكون في باريس أن ساركوزي حمل معه العديد من الملفات التي قد تغضب بوش لكن لا بد منها.

فهو يعرف أن مشروع بوش – شيراك في لبنان قد فشل وأن الأحصنة التي راهنوا عليها ليست أحصنة وأن أصدقاء باريس وواشنطون في بيروت فعلوا كما فعل نظراؤهم في بغداد وكذبوا عليهم في كل شيء. والمطلوب من ساركوزي كرئيس لفرنسا أن يوقف هذا النزف في الخاصرة الفرنسية وما نتائج الانتخابات الفرعية في المتن الشمالي والإقبال الضعيف في بيروت إلا صورة عن حجم ونوع ما يدعيه أصدقاء باريس وواشنطون من قدرة.

وفي فلسطين الوضع نفسه تماما سوى أن ساركوزي لا يعتبر أن لباريس أصدقاء هناك لكنه يعتقد أن خطأ الولايات المتحدة وحلفاءها في هذا الملف قد يتسبب بالمزيد من الكوارث على فرنسا وعلى الشعب الإسرائيلي أولا من هنا كان لقاءه مع الرئيس المصري حسني مبارك " لقاء مجاملة" لا أكثر تخلله عتب فرنسي معطر لا مجال للبوح به الآن. لكن عندما تصمت وسائل الإعلام الفرنسية عن هذه الزيارة صمتا مطبقا يعرف الجميع ما حصل. أكثر مما لو تحدثت. وحسب مقربين من مطبخ ساركوزي التاريخي فإن الرئيس الفرنسي بات مقتنعا أن لقاء عباس وأولمرت لا يصنع سلاما ولا أمنا ويأسفون للقول أن السلام في الشرق الأوسط مرهون بالقوى الفاعلة التي تعاديها الولايات المتحدة والغرب وأن أبو مازن ليس منها كذلك أولمرت الذي فاتته فرصة أن يكون صقرا فهوى والاثنان ضحية المراهنة الأمريكية الخاطئة.

مشكلة ساركوزي مع واشنطون أيضا هي أنه غير مقتنع بالرباعية الأمريكية في الشرق الأوسط ويعتبرها عبئا لا سندا وفاقدة للأفكار الخلاقة التي تتطلبها المرحلة القادمة بينما تصر الولايات المتحدة على اعتمادها كمحور لتحركها في الشرق الأوسط وتعتبرها ضمانة لحسن سير الأمور لكن ساركوزي يحمل هذه الرباعية مسؤولية تردي الوضع في لبنان وفلسطين ولم تساعد واشنطون على ربح المعركة في الملفين بل زادتهما تعقيدا. هذا الأمر سيكون محور نقاش في عطلة ساركوزي الذي يحمل عددا من الأفكار الثورية في هذا المجال منها توسيع الرباعية العربية لتصبح سداسية أو سباعية شرق أوسطية تضم إيران وتركيا والجزائر طالما أن بوش يعترف ضنا أن لطهران دور أساسي في لبنان وفلسطين وعلاقة إستراتيجية مع سوريا.

ساركوزي يحمل معه أيضا بعض الانتصارات التي يستطيع توظيفها في واشنطون منها نجاحه في ليبيا وطهران وهنا تقول الدوائر المعنية أن ساركوزي سيعرض على بوش توظيف هذا الموضوع كرافعة لحوار مشرف مع طهران في الموضوع العراقي وخروج مقبول من مأزقه مع سوريا. مؤكدا له أن باريس قد تكون وسيطا جيدا بين الولايات المتحدة وسوريا وطهران ويعتقد الفرنسيون أن الرئيس بوش قد يقبل بهذا الطرح ولكن لا يثقون تماما بقدرته على أن يفي بوعده لساركوزي.

ويبقى ما يخيف بوش هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي استطاع أن يبني ركائز ثقة مع ساركوزي الأمر الذي استدعى زيارة من الأمير بندر بن سلطان لموسكو لإعادة ربط العلاقات مع بوتين الذي بات فعليا على حدود مناطق النفوذ الأمريكي في الخليج.

ساركوزي وفريقه يعتقدون أن المرحلة في غاية الخطورة وأن أي خطأ سيكون قاتلا لفرنسا ولأوروبا خلال الأشهر الست القادمة إذا لم تستعيد توازنها السياسي في الشرق الأوسط وأفريقيا حيث تحتشد القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية الكبرى في العالم.