بين والي السوريين العثماني الجديد والانكشارية الجدد ثمة علاقة لا يمكن إنكارها حتى ولو لم يعلن الباب العالي وجودها وحتى لو كان فرمان تعيينه غامض المعالم غموض الوضع الداخلي في تركيا وغموض الوضع الداخلي عند الذين أرادوا استنساخ الماضي الاستعماري سواء في الباب العالي أو في العواصم الغربية وخاصة باريس.

بالتأكيد لن يستطيع الذين استنسخوا الماضي كالاستعمار الجديد الذي تستنسخه فرنسا من ماضيها القريب والبعيد في شاطئ العاج وليبيا واليوم في مالي والذين استنسخوا الإمبراطورية والخلافة البائدة في اسطنبول أن يفرضوا ثقافتهم على العالم من جديد ولا على سورية. كل ما يستطيعونه أن يجمعوا فلول ظلاميين حدود حلمهم أن يعيشوا كما عاش تنابل السلطان عبد الحميد العثماني. أو الذين صعقتهم يوماً أضواء باريس وتناسوا القيم والتضحيات والأفكار الخلاقة التي دفع ثمنها الفرنسيون ليصلوا إلى عصر الأنوار.

هؤلاء الذين ارتضوا والياً إنكشارياً عليهم أو الذين أرادوا مفوضا ساميا جديداً لم يقرؤوا ربما التاريخ ولا الجغرافيا السياسية ولا الاجتماعية. وثمة احتمالان لقبولهم بهذا الموقف التاريخي المخزي: فإما أن درجة ذكائهم منخفضة جداً لا تسمح لهم بالتقاط اللحظة التاريخية التي يفترض أن يعرف كل رجل دولة التقاطها ليصبح بالإمكان التعامل معه على هذا الأساس وإما أن منسوب الوطنية الذي يدعونه لا يكفي لاعتبارهم أبطالا ثوريين.

خطورة هذا الخضوع لا تكمن فقط في بنيته الثقافية فقط بل في انهيار كل البنية السياسية التي ادعوها في حراكهم خلال عامين على الساحة السورية حراك دفع ثمنه السوريون دما وأرواحا وبنى تحتية ومن صورة الوطن والشعب الحر. وأعطوا للسلطة التي ادعوا أنهم يريدون إسقاطها شرعية جديدة ومشروعية جديدة. شرعية ومشروعية كانت تحتاج إلى مشروع حوار وطني ومشروع إصلاحي شامل. لكن بهذا الخضوع التام لمنطق السلطنة المستنسخة والإمبراطورية المستنسخة والاستعمار الجديد (الخلاق) المستنسخ على الطريقة الفرنسية لم تعد السلطة بحاجة إلى هذا الجهد الكبير الذي تنوء به.
وخطورة هذا الخضوع هو سقوط ما ادعوه من أنهم ثوار فأسقطت إسطنبول وبابها العالي ثورتهم وحولتهم إلى اتباع وسورية إلى سناجق وأسقطت باريس أنوارهم وحولتهم إلى عملاء. وأيقظوا الذاكرة التاريخية للسوريين إلى زمن اتفق فيه الأتراك والفرنسيون على شيء واحد هو سلخ كيليكيا والإسكندرون السوريين واعتبارهما تركيين مقابل صفقة تاريخية بين الطورانيين والفرنجة.

أما اللحظة التاريخية والفرصة التاريخية فإنهما قد حضرا وفتحا الباب مشرعاً لكنهم لم يدخلوه بدل أن يبقوا بلادهم وشعبهم في جحيم الانقسامات وفي الصراعات ويعلنوا من إسطنبول وباريس والقاهرة والدوحة ثورتهم على الاستعمار الجديد والسلطنة الجديدة مع احتفاظهم بحقهم في بناء دولة ديمقراطية حديثة اسمها سورية.

فبناء الدولة السورية الحديثة شأن سوري في الصميم وأمر يتناقض جذرياً مع مشروع الوالي والسناجق ومشروع الاستعمار الجديد الذي يقبل ويمول ويدعم ويعزز التطرف الديني والمذهبي في سورية ويرسل بطائراته ليقتلهم ويدمر بنيتهم وأحلامهم في تعيين الوالي والهجوم على مالي.

ويكفي أن يقرأ المهتمون بالشأن السوري ببساطة ودون تعقيدات العلاقات الدولية ما يجري على الساحتين الإقليمية والدولية ليروا بوضوح أن الأمور تجري بعكس ما يتمناه من اختاروا المرور إلى السلطة في سورية من الطريق المؤلم طريق الدم السوري والبنى التحتية السورية. وكل المؤشرات تدعو للقول أن حلاً سياسياً وشيكاً قد يبدأ للمسألة السورية لن يكون فيه للسلاح والمسلحين مكان لا في الدولة ولا في المجتمع السوري والآخرون يناقشون مصالحهم، وحدهم المعارضون المسلحون لم يقدموا ما يفيد عن رغبتهم ببناء الدولة السورية العصرية أو بما يمكن اعتباره مطالب يمكن تحقيقها في المعادلات الداخلية والدولية والإقليمية. وبذلك خسروا أيضاً أن يكونوا جزءا من الحل بعد أن كانوا معظم عناصر مشكلات سورية.

ودون الدخول في تفاصيل هزيمة مشروع إسقاط سورية فالمؤكد أولا أن المشروع قد سقط وأن التحدي كبير أمام السلطة والمعارضة الوطنية في عملية إعادة البناء بل أيضاً في ضرب كل بناء مشوه واستبداله على صورة ما يريده السوريون وما يعيد الوطن لمواطنيه جميعاً بكل ما يحملون من أفكار وعقائد قيم وتاريخ والمواطنين إلى وطنهم بكل ما فيه من تراث وقوة لصناعة مستقبل أفضل.