ناتان شارنسكي أراد تقديم النصيحة الذهبية للولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة، وإذا كان ليس مستغربا أن تخرج النصائح من "المتشددين" لأنهم لا يملكون سوى التسلح بالمطلق، فإنه وجد في روحية المحافظين الجدد الطاقة لدفع "الديمقراطية" نحو آفاقها الجديدة، وتحويلها من نطاق الحداثة إلى استراتيجية ساحقة كما شهدناها في العراق.

سارنسكي الذي مثل كتابه الحمض النووي للإدارة الأمريكية حسب بوش لا يشكل اليوم مفاجأة بعد أن اقتربت السياسة الأمريكية من النقطة المركزية التي طرحها، فنحن بلا شك نشهد "انتعاش" الديمقراطية على مساحة شاسعة من العالم، لكن هذا الانتعاش يذكر بمراحل حرق الثقافات التي واكبت المد الاستعماري في القرن التاسع عشر، وبشكل يوحي أن المحافظون الجدد يحملون طابعا "رسوليا" جديدا من "الحضارة" إنما بشعار لا يستبعد القتل والتطرف، والقدرة على قلب الأنظمة، أو حتى تكرار التجارب التاريخية.

وإذا كان ما يجري ليس جديدا فإن ما يدهش هو طبيعة التعامل الاجتماعي مع اعتبار وجود وعي لما يحدث ... فنحن اليوم لسنا أمام ظرف تاريخي يوحي "بصدمة" الحضارة كما حدث خلال حملة نابليون. ونحن أيضا لا نحتاج إلى مزاودات في الحرص على حقوق الإنسان طالما أنها دخلت في نطاق المطلق بدلا من كونها قيمة حيوية. ونحن في النهاية نرى ما يحدث لكننا لا نعرف بالضبط أين نتجه وسط التسلسل السريع لتطبيق نظرية شارنسكي و "فرصه الديمقراطية".

وإذا كان مجلس الأمن سيجتمع اليوم ليقرر ما يراه بشأن سورية، فإن المسألة يجب أن تتضح أكثر في الأذهان كي نعرف أن التعامل مع وضعنا الداخلي لا يخضع لوصفة جاهزة يتحفنا بها سياسيون من القرن الماضي ... يطلون من على فضائيات "تراثية" ويفترضون أن المجتمع "مخدوع" وعليه الاستماع لنبوءاتهم القادمة من عالم "المسيح المنتظر".

ربما نشهد اليوم مدا في الحرص على الوطن، ودون تشكيك بهذا الحرص النابع من الإحساس بالخطر، أو بقسوة الزمن الذي ينتهك باسم "رسوليته" كل الحدود الثقافية أو التفكير السائد، لكن الحرص لا يكفي ... والحرص يدون اليوم معزوفة نشاز أمام جمهور يبحث عن جديد ... ويعرف أن الخطر القادم لا يقاوم بتعويذات نطلقها في وجه ما يحدث أو بسحر الكلام الذي يعتبر نفسه أوجد الفردوس المفقود وأتحف العالم بصياغة لسورية ..... المسألة مع الولايات المتحدة ومع العالم ليست قرار مجلس الأمن أو طبيعة النظام في سورية، فهي أعمق من أي تصريح صحفي لأنها متعلقة بقدرتنا على تجاوز المألوف ورسم صورتنا كما نريها اليوم وليس على سياق الصراع السياسي في الثمانينات. والخطر هو في استمرار الوصفات الجاهزة، أو في بقاءنا نشطاء أو حتى تيارات رسمية خارج إطار الحوار المباشر لإيجاد هذه الصورة.