مثلت الأحزان والأوجاع - لبنان - سورية - العراق رباعي الأضلاع والزوايا بعد الأعمال الإرهابية التي عصفت بالأردن ليل الخميس الماضي، وتمكن أبومصعب الزرقاوي من تنفيذ تهديد أطلقه قبل فترة وجاءَ فيه «... سيشهد الأردن تفجيرات تشيب لها الولدان»، وهذا ما حدث فعلاً خاصة عندما نعلم الثأر الكامن بين «أبومصعب» والبلد الذي احتضنه.

ومع أن السلطات الأردنية عرفت بضبطها الأمني على الصعيد الداخلي أو لجهة الحدود المترامية لكن الإرهاب يؤكد مرة جديدة قدرته على اختراق الحدود والتدابير والإجراءَات بألف وسيلة ووسيلة. ويعتقد هاني السباعي مدير مركز «المقريزي» في لندن » أن منفذي تفجيرات عمان الأخيرة دخلوا من العراق عبر الحدود الأردنية وقاموا بما قاموا به انتقاماً من الحكومة الأردنية التي تدرب الشرطة العراقية».

ولكن من هم الضحايا؟ من غامر تلك الليلة وحدد موعداً لزفافه فتحولت الأعراس إلى مآتم غارقة في بحر من الدماء. ولن يكون مصطفى العقاد أول المبدعين ولا آخرهم ضحايا الإرهاب الأعمى. ومازال الرئيس جورج دبليو بوش وفي عزائه للأردن حيال ما حل به من كارثة مواسياً بالحديث «الصارم» عن ضرورة توقيف الفاعلين ومحاكمتهم أمام العدالة!

عن أي عدالة يتحدث السيد بوش وعن أي فاعلين طالماً أن الفاعلين يفجرون أنفسهم؟ والعدالة التي يجري الحديث عنها يمكن أن تكون بمفهوم آخر غير المفهوم القضائي - الأمني بل بمعنى إعادة النظر في السياسات والمواقف العامة وخاصة المتعلق منها في أحداث وتعقيدات مشاكل المنطقة.

والعراق الذي أرادته الولايات المتحدة عند غزوها له بعد إسقاط صدام حسين، منارة «دمقرطة المنطقة» فأذا به منذ ذلك السقوط الهادئ والمريب لبغداد مصدر تفجير للعراق وللعراقيين أنفسهم ولدول الجوار والمنطقة .

وحدثت تفجيرات عمان قبيل ساعات قليلة من خطاب الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد صباح الخميس، وفي هذا الخطاب أكثر من قول.

فبعد دراسة مطولة لكل المعطيات المطروحة أمامه قرر النظام في سورية برئاسة الأسد اعتماد المواجهة وعدم الرضوخ للضغوط الماثلة أمامه على صعيد مجموعة من القرارات الدولية السابقة، بالإضافة إلى قرارات أخرى لاحقة في غالب الظن. فعن العلاقة مع العراق قال بأنه عرض إقامة علاقات طبيعية معه وأرسل بشأن ذلك إلى الرئيس العراقي جلال طالباني ورئيس الوزراء الدكتور إبراهيم الجعفري لكنه لم يلق التجاوب. وحذر الأسد من أن ما يحدث في العراق مصدر قلق لكل عربي «ولا أحد يعرف متى يقع الانفجار الكبير والمتمثل بتذويب هوية العراق وطمس عروبته مما يمهد الطريق أمام خطر التقسيم».

وحول ما جري في العراق في ضوء الزيارة التي قام بها الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى والإعداد الجاري لعقد مؤتمر الوفاق والمصالحة في التاسع عشر، مبدئياً، من الشهر الجاري في القاهرة، يطرح السؤال: من الذي عاد إلى من؟ فهل أن النظام العربي ممثلاً في ما تبقى من الجامعة العربية هو الذي عاد بعد كل هذا التجاهل الطويل إلى العراق؟ أم إن العراق هو الذي عاد إلى «العروبة»، بعد حالة من الجفاء تحولت في بعض الأحيان إلى حالات من العداء؟ وما يمكن قوله في هذا المجال هو أن المنطقة تشهد حالياً مرحلة تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، فعندما كان الاهتمام العربي بالوضع في العراق يعتبر «تدخلاً خارجياً»! من قبل القوات الأميركية، ها هي واشنطن تبارك مهمة الجامعة العربية وتتمنى لها النجاح ليس حباً بالعروبة بل رغبة في تحديد الخسائر من التورط العسكري والسياسي القائم في العراق، خاصة وأن الاحتجاج في الداخل الأميركي وفي أوساط الحزب الجمهوري الحاكم تحديداً بلغ مرحلة متقدمة. أما الخلاف فينحصر الآن في اختيار الأطراف التي ستشارك في اجتماع القاهرة حيث يضع البعض الفيتو على احتمال أن يضم اللقاء عدداً من «البعثيين الصداميين»، في حين أن رأي السيد عمرو موسى هو ضم الجميع وحتى بعض الممثلين عن المقاتلين لأن الوضع لم يعد يحتمل المزيد من التدهور في الحالة العراقية.

وبهدوء تام صوت مجلس الأمن وبالإجماع قبل أيام على قرار يطالب القوات المتعددة الجنسيات البقاء في العراق حتى نهاية العام 2006 في حين أن قراراً سابقاً نص على هذا الانسحاب في نهاية العام الحالي.

هل لاحظتم حالة الوفاق الدولي بين أعداء الأمس الذين اختلفوا جذرياً حول الحرب على العراق وكيف استحال هذا العداءَ إلى حالة من التعاون، وخاصة في اتجاه آخر هو لبنان عبر التوافق الوثيق القائم بين فرنسا والولايات المتحدة حول أسلوب التعاطي مع سورية في لبنان، وحول تعاطي سورية مع سورية نفسها! وهنا نصل إلى فصل العلاقات اللبنانية - السورية في خطاب الرئيس الأسد الأخير.

لقد كان خطاباً قاسي اللهجة عالي النبرة ...واثق الخطوة يمشي أسداً! كيف يمكن قراءة هذا الخطاب ولو بعناوين رئيسية ؟

كان قراره واضحاً بين المقاومة والصمود والفوضى، فأختار المقاومة لأن «ثمن المقاومة والصمود أقل بكثير من ثمن الفوضى» . وهذا التصور ينطلق من المفهوم القائل أن أي تغيير سيستهدف سورية لن يبقي ضمن حدود معينه بل ويتخطاها إلى العديد من دول المنطقة.

لقد قلب الرئيس الأسد بخطابه الطاولة على رؤوس الجميع وقرر باسم العدالة السورية أن لا علاقة لبلاده أو لأي أفراد فيها بحادثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأتخذ من تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس عبارة «البراءة» ليتوج بها الاستنتاج، وهذه واحدة من الثغرات التي اتصف بها تقرير المحقق الدولي من حيث أنه لم يكن قاطعاً في تقريره ولا في أحكامه ولا في الأدلة المتوفرة لديه أو لنقل الأدلة التي عرض لها في تقريره إلى مجلس الأمن.

لكن الرئيس السوري أطلق قذائف المدفعية الثقيلة ضد بعض الزعامات اللبنانية وفي طلعتها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة والنائب سعد الحريري، وزعامات وطنية لبنانية أخرى.

وإذا كان كل لبناني يسوؤه أن تبلغ العلاقات بين بيروت ودمشق هذا النوع من الحملات الإعلامية والسياسية البالغة القسوة، فقد أعتمد الرئيس الأسد المبدأ القائل أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فأنهال على لبنان بهذه الكلمات القاسية. ولوحظ بأن أقذع الاتهامات والتعابير جاءت عندما كان يخرج عن النص المكتوب وهذا ما تنبه له السيد وليد جنبلاط الذي بدأ شديد الهدوء والقوة خلال تعليقه على خطاب الأسد، واختار أن يوجه اللوم إلى الخروج عن النص مع رفضه الاتهامات ضد رجالات لبنان الوطنيين وفي طليعتهم فؤاد السنيورة وسعد الحريري ووليد جنبلاط نفسه، وحرص على طمأنة الرئيس السوري من عدم الخوف من قيام «17 أيار (مايو) جديد» لأنه سيواجه السقوط كما حدث سابقاً. لكنه ومع ذلك قال الرئيس بشار الأسد في العودة إلى خطابه المكتوب... «أننا لن نسمح بتدمير العلاقة بين لبنان وسورية... لأن تدمير العلاقات اللبنانية - السورية تدمير للمنطقة بأكملها».

على أن أخطر ما ورد في لائحة الأسد «الاتهامية» ضد لبنان، هو أنه «أصبح مقراً لكل المؤامرات على سورية»!

وفي سياق طرح المعادلات التي تحكم علاقات المنطقة المتجاورة دولها بعضاً لبعض يمكن أن نقول التالي:

ان سورية في قضية اغتيال الرئيس الحريري هي متهمة إلى أن يثبت العكس. وفي المقابل فأن لبنان بشأن «تدبير المؤامرات على سورية» هو بريء حتى يثبت العكس. وعلى دمشق أن تفرق ما بين المشاعر المعادية التي تسود الكثير من الأوساط اللبنانية في هذة الايام ـ نتاج تراكمات ثلاثة عقود من الوجود والتواجد، وبين تحول لبنان بين ليلة وضحاها إلى مختبر يحضر المؤامرات ضد سورية.

ان العلاقات اللبنانية - السورية هي الآن عند المنعطف الخطير. وقبل أن يستمر العمل على تأجيج هذا النوع من العلاقات الذي لا يخدم لا لبنان ولا سورية ولا اللبنانيين ولا السوريين في نهاية الأمر، فمع الانتصار للجانب الوطني والقومي لا يجب أن يترك للمشاعر الصاخبة الغاضبة أن تخرج نهائياً من عقالها ليس حفاظاً على حكم ولا على حاكم، بل على علاقات تاريخية عضوية تربط لبنان وسورية ويصعب فصلها نهائياً.

وفي ضوءَ كل ما يحدث يمكن أن نري الرسم البياني لدول المنطقة على الشكل التالي : «تدويل» لبنان ، و«عرقنة» سورية، و«تطييف» العراق، و«افغنة» الأردن. ومع القليل من الشرح يمكن أن نضيف أن لبنان تحكمه الآن مجموعة من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن ومع أن الكثير لا يريد استخدام كلمة «تدويل» فهو فعلياً كذلك بل أن بعض الأطراف اللبنانية تفضل ذلك وتعتبره أكثر حماية له ولها في هذه الظروف.

و«عرقنة» سورية، نلاحظ بالتقارب القائم بين السيناريو العراقي والسيناريو السوري مع الاختلاف في بعض التفاصيل. ورغم «تطمينات» كوفي انان بأن المنطقة يكفيها الذي فيها ولا تحتاج لمزيد من التعقيد فأن الأوضاع مرشحة لمزيد من التصعيد والتعقيد.

أما «تطييف» العراق فالتعبير يصح في اتجاهين. الأول الاتجاه نحو عقد مؤتمر طائف عراقي يجمع كافة الأطراف على غرار الطائف اللبناني، شرط أن تكون نتائج الطائف العراقي أفضل بكثير من التجربة اللبنانية في هذا المجال. أما الاتجاه الآخر للتعبير فهو التطيف بمعنى تكريس مدارس التفرقة الطائفية والمذهبية. ولم يعد يكفي أن تنفي بعض الوجوه العراقية الاتجاه نحو هذه النتيجة فأن خطط تقسيم المنطقة لن تسأل عنها شعوب المنطقة ولن تستفتى في هذه المسألة بل ستكون نوعاً من فرض الأمر الواقع.

وأما «أفغنة» الأردن ، ومع التمني أن لابعدم تنفيذ هذا المخطط فأن الزرقاوي مصر في نظرته التكفيرية وفي أفكاره الظلامية على نشر المزيد من القتل والتفجير والتدمير باسم الدين السمح الذي لا يعرف ولا يتعرف على مثل هذه الممارسات الممقوتة.

وفي المحصلة الأخيرة، يجب القول لبنانياً: الاسترشاد بكلام حكيم قاله الرئيس الراحل رفيق الحريري من أن لبنان لا يحكم من سورية ولا يحكم ضد سورية. وكما قال أيضا الزعيم الراحل رياض الصلح أن لبنان لن يكون ممراً ولا مقراً للاستعمار على سورية وأن تظهر أنها لن تكون «ممراً أو مقراً ضد لبنان ومصالح شعبه». والمهم في الأمر الآن متابعة حالة الوحدة الوطنية الداخلية والتنبه لأبعاد لعبة الفرز المذهبي.

عربياً: المنطقة تتماوج بأكبر عملية مد وجزر في تاريخها والتجاذبات الحادة تهدد المنطقة بكاملها دون استثناء. ومن هنا كان رهان الأسد على أن ثمن المقاومة والصمود أقل بكثير من ثمن الفوضى!

ويبقى على الذين يطرحون التوجهات الرنانة كشعار «الفوضى البناءة» أن يشرحوا لنا كيف ستكون عملية البناء ناشئة في عملية الفوضى. في حين أن الكثير من المعطيات يؤكد أن الولايات المتحدة تعيد النظر في بعض هذه الطروحات لأن هذه الطروحات ليست قدراً نهائياً كما يرى البعض بل أنها قابلة للنقض وعدم التطبيق، وتجربة العراق أفضل مثال.

أما التوجه الأميركي - الدولي الجديد فيدرس حالياً عدم المضي في السياسيات الانقلابية ليس حرصاً على الأنظمة القائمة بل خوفاً من الآتي بعدها أو بديلاً لها.

ومثل هذه المعادلة قد تخدم صالح بعض الأنظمة القائمة. أما مجلس الأمن الحاكم والمتحكم فهو أمام اختبار لممارسة سلطاته بوجه إعلان دمشق رفض التقيد الحرفي بمضمون القرار 1936 والمستند إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. فهل نعود إلى مسلسل العقوبات الذي أثبت عدم جدواه؟ أم لدى مجلس الأمن فقرة ساحرة أخرى؟ ولم نفهم حتى الآن أسباب «ترحيب» كوفي انان بخطاب الأسد!.

وبالتأكيد لن نتوقع هبوط قوات المارينز على شواطئ بيروت أو اللاذقية حتى ولو ان المسافة قصيرة من العراق!

وبقي أن ننتظر لمعرفة مـا هـو ثمـن «عدم التعاون» مع القرارات الأميركية - الدولية، أم أن المواقف المعلنة معرضة للنقض والتغيير؟

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)