في ستوديوهات قناة المنار

هناك قاعدة ثابتة في مجال الدعاية، فـ"لكي يظهر الكذب بمظهر الحقيقة، يجب أن نتأكد بعدم وجود صوت يمكن له تكذيبه، ثم علينا بعد ذلك أن نُكرّر الكذب دون ملل".

وهكذا، قبل أن تطلق إسرائيل هجومها في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي لبنان، تحت غطاء الدفاع عن النفس، فإنها قامت بالتأكّد من أن (المنار)، القناة التلفزيونية التابعة لمقاومة الاحتلال بجنوب لبنان والجولان السوري وفلسطين، لا يمكن لها أن تُسمع صوتها لأوروبا والأمريكتان وباقي العالم.

ومن المحتمل أن بعض الذين لعبوا دورا في هذه الرقابة لم يكونوا على دراية بالمآلات الدرامية التي تنتج عن هذا الفعل. ولكنّ الجميع أراد منع نقاش يصبُّ في الاتجاه المعاكس وسعى لتفضيل الأكاذيب الإسرائيلية. ولهذا يتحمل الكُلّ مسؤولية في الجرائم التي صارت ممكنة بفعل هذا التعتيم.

وإضافة إلى ذلك، فإن تاريخ هذه الرقابة يُفيدُنا كثيرا حول موضوع شبكات ووسائل التأثير المستعملة من طرف الجيش الإسرائيلي في فرنسا وفي العالم بأسره.

تمهيد: "من أراد إغراق كلبه فليتّهمه بالكلَب"

للتذكير، تُعتبر (المنار) قناة تلفزيونية أنشئت من طرف حزب الله عام 1991 وتبثّ عبر الأقمار الصناعية منذ عام . وهي تقدّم أساسا تقارير ونشرات إخبارية تتعلق بالاحتلال العسكري الإسرائيلي، تتخللها بعض الحصص الترفيهية.

وتعُدُّ كلٌّ من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى كندا وهولندا، حزبَ الله على أنه "منظمة إرهابية"، وهذا يجعله في خانة الأعداء غير الحكوميين.

وعلى عكس ذلك، تربط فرنسا والدول المقرّبة منها علاقاتٌ ودّية مع حزب الله إلى درجة أنّ الرئيس الفرنسي جاك شيراك أرسل إليه دعوة للمشاركة في قمة الفرانكفونية، كما أشرفت زوجة الرئيس، برناديت شيراك، على تدشين كثير من منجزاته الخيرية. وعلى الرغم من أن قناة (المنار) تُعتبر وسيلة إعلامية، بل ولأنها وسيلة إعلامية، فإنها أصبحت هدفا خاصا لتل من أبيب وواشنطن.

وبدأ العداء في 3 مايو 2003، عندما منع كولين باول، كاتب الدولة الأمريكي، في زيارته الرسمية لسوريا، قناة المنار من الحضور إلى ندوته الصحافية. وفي أكتوبر من نفس السنة، احتجت مصلحة الدولة الأمريكية لدى مماثليها السوريين واللبنانيين عندما تم الإعلان عن بث قناة (المنار) لمسلسل "الشتات"، وهو يتناول بالحديث قصة نشأة دولة إسرائيل، حيثُ اعتُبرت الرواية خاطئة وتساعد على تأجيج نار معاداة السامية .

ولكنّ القناة لم تعبأ بهذه الضغوطات وبدأت ببث المسلسل في شهر رمضان، غير أن بقية القنوات العربية رفضت بثّه، وبعد نشر حلقة أثارت جدلا كبيرا، ألغت قناة المنار المسلسل من شبكة برامجها.

وأطلق بعد ذلك معهد إعلام الشرق الأوسط والأبحاث (MEMRI) حملة دولية لمنع بث قناة (المنار). ويُعتبر هذا المعهد أحد اللوبيات القوية، حيث يتخذ من واشنطن مقرا له، وتأسس في القضية كطرف مدني. وهو في حقيقة الأمر أنشئ في عام 1998 من طرف بعض ضباط استعلامات القوات المسلحة الإسرائيلية، ومنهم: يوتام فيلدنر وآلوما سولنيك، تحت قيادة العقيد ييغال كارمون. وتم إدماجه ضمن شبكة جمعيات تابعة للمحافظين الجدد بالولايات المتحدة الأمريكية، وتتميما لمسعى المعهد، قام المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF) بإخطار المجلس الأعلى للسمعي البصري الفرنسي (CSA).

ويُعتبر المجلس الأعلى للسمعي البصري في فرنسا "مصلحة إدارية مستقلة"، تُعنى بالإشراف على قطاع السمعي البصري، ويرأسها دومينيك بودي، الممثل الفرنسي السابق لمُجمّع (كارليل)، بيت الاستثمار المشترك بين آل بوش وآل بن لادن.

وأعلن السيد بودي بمناسبة تقديمه التهاني للصحافة أنه أخطر وكيل الجمهورية وطلب موعدا مع رئيس مجلس إدارة (أوتلسات) لتحديد كيفية منع بث قناة (المنار) المتهمة برأيه بالتحريض على الكراهية والعنف .

أسبوعا بعد ذلك، احتفلت إسرائيل بـ"اليوم الوطني للنضال ضد معاداة السامية". وبهذه المناسبة، صرح الجنرال موشي يالون قائلا: "قرابة 60 سنة بعد تحرير أوشويتز، لا زالت معاداة السامية تهدد حياة اليهود، رغم تبديلها لشكلها وإستراتيجيتها". وقام رفقة ناتان شارنسكي بتنظيم معاينة مقاطع من مسلسل "الشتات" لصالح قيادة القوات الإسرائيلية . ويجمع شارنسكي بين مهام نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي ومستشار لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقوم أحيانا بتحرير بعض الخطب الرئاسية.

وأعلنت الإذاعة العسكرية الإسرائيلية حينئذ أن إسرائيل قامت بعمليات عديدة لمنع بث قناة (المنار) في أوروبا، وصنفت مبادرة المجلس الأعلى للسمعي البصري الفرنسي بطلب من المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا على أنها أولى نتائج هذه الحملة، وهو ما أكدته وزارة الشؤون الخارجية الإسرائيلية.

المشهد الأول: الإحتجاج بمعاداة السامية

في 31 يناير 2004، صرح رئيس الوزراء الفرنسي جان بيير رافاران أثناء دعوته إلى غداء نُظم من طرف المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا بأنه عاين شريط الفيديو المُعدّ من طرف القوات المسلحة الإسرائيلية، وذلك رفقة وزيرته للدفاع نيكول غادج، وهي بدورها مستشارة للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا.

وأعرب لمستمعيه، المبتهجين، عن نيته في تغيير التشريع حتى يتسنى للمجلس الأعلى للسمعي البصري ولمجلس الدولة المنع الإداري للقناة دون انتظار محاكمتها أو معاقبتها جزائيا. تسرُّع الوزير الأول لا يمكن تفسيره إلا بكونه اقتنع بأن التهمة الموجهة لقناة (المنار) مبالغٌ فيها، وبالتالي لن تتخذ العدالة أي عقوبة ضدها. ولكي يُرضي مستضيفيه، قرر رئيس الوزراء الفرنسي استحداث قانون استثنائي.

وتم إدراج الإجراءات الجديدة ضمن قانون يخص مصالح السمعي البصري، حيث تم المصادقة عليه من طرف الغرفتين البرلمانيتين ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 1 يوليو. وبعد يومين، أخطر المجلس الأعلى للسمعي البصري مجلس الدولة لإصدار قرار المنع الإداري. وصرح الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية لمّا سُئل عن هذا الإجراء، فقال: "لا ينبغي لأحد أن يشكك في عزم فرنسا على مكافحة كل مظاهر التمييز الجنسي ومعاداة السامية"، تاركا التخمين حول ما يجب فهمه عن "استقلالية" المجلس الأعلى للسمعي البصري.

وطالب المجلس الوطني اللبناني للسمعي البصري الذي استغرب من هذا القرار، فرنسا، باحترام حرية التعبير. ثم تبعته كل الطبقة السياسية اللبنانية، بل طلب المجلس اللبناني من كل وسائل الإعلام العربية القيام بيوم تضامني مع قناة المنار، في 12 أغسطس.

وعند تعليقه على هذا النزاع أمام الصحافة، قال وزير الخارجية اللبناني جان عُبيد: "إننا لا نريد التدخل في عمل العدالة الفرنسية، ولكننا نعتقد أن المظهر السياسي يطغى على هذه القضية. وفي كل مرة يتم فيها نقد ظلم تاريخي قام به بعض الإسرائيليين أو اليهود، يُنظر إلى ذلك على أنه نقد للشعب اليهودي أو لديانته".

ونشر الرئيس اللبناني إميل لحود شخصيا بيانا قويا يقرر فيه أن "كل إجراء يُتخذ ضد قناة (المنار) يمس كل وسائل الإعلام اللبنانية ويمنعها من ثمّ من إيصال وجهات نظرها للرأي العام الفرنسي والأوروبي الذي بدأ يفهم عن طريق القنوات الفضائية اللبنانية، عدالة القضية العربية وفضيحة أعمال العنف الإسرائيلية" .

وعند هذا الحد من الجدال، بدا واضحا أن المقاطع المختارة من مسلسل "الشتات" بيد قيادة القوات المسلحة الإسرائيلية كانت مُغلّطة ومُضلّلة. حيث كانت المقاطع المعزولة عن سياقها تبدو "غير محتملة"، حسب تعبير الوزير الأول الفرنسي رافاران. ولكنها إذا وضعت في مواضعها الصحيحة من المسلسل، فإنها تبدو مُضحكة وتضاهي كثيرا من مشاهد المسلسلات الأمريكية، إلا أنها لا تمسُّ بالحديث نفس الشعوب.

ويمكنُ أن نقول إن هذا المسلسل المحزن ليس في مستوى بقية برامج قناة "المنار"، وهو مع ذلك يقدّم ذريعة عرجاء، مع أن القناة قامت بتوقيف المسلسل.

وتم تأكيد الاتهام الذي أطلقه الرئيس لحود عبر تقرير للوكالة الفرنسية للصحافة، حيث يمكن لنا أن نقرأ بوضوح: "إضافة إلى المسلسل، تأخذ السلطات الفرنسية على قناة (المنار) أنها تُبرّر الإرهاب تحت غطاء النضال السياسي ضد دولة إسرائيل". كما يشرح مصدر من المجلس الأعلى للسمعي البصري قائلا: "هناك خط افتتاحي عام يُشجع صورة الشهيد الذي يُفجّر نفسه لقتل الإسرائيليين، وبثّ صور تُظهر التعاطف مع جنازات المنفذين للعمليات، وإذاعة أغاني وصور المحاربين". والرهان الوحيد والحقيقي يكمن في معرفة ما إذا كان الجمهور الأوروبي يمكن له أو لا التعرّف على وجهة نظر اللبنانيين.

وبالنسبة للمدافعين عن السلطات الفرنسية، فإن الصور التي توجّهها القنوات التلفزيونية لجمهور شرق أوسطي يستوعب مضامينها يمكن لها أن تُقرأ قراءات خاطئة من طرف جمهور أوروبي، إلى درجة أنها قد تساهم في تصدير الصراع الشرق الأوسطي إلى أوروبا. ولكنّ هذا ليس مشكل قناة (المنار) وحدها، لأنه ينسحب على كل الصور الواردة من بؤر الصراع. وهو شيء لا يمكن حلّه إلا بتعليم ملائم يواكب زمن عولمة القنوات الفضائية.

قليلةٌ جدا هي المنظمات التي تتجند للدفاع عن حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بالتضييق على العرب. وقامت شبكة (فولتير) حينها بإرسال بعثة إلى لبنان لكي تعبّر عن دعمها لقناة (المنار)، والتقت بالشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله .

في نونبر 2002
رئيس شبكة فولتير, تييري ميسان, يلتقي مسؤولي حزب الله في لبنان.

وعلى عكس كل التوقعات، اقتصر مجلس الدولة على اشتراط أن تُعدِّل المنار وضعها حتى تتجانس مع القانون الجديد. وأودعت القناة ملفا لدى المجلس الأعلى للسمعي البصري الذي لم يجد أي سبب لرفضه فاضطر إلى قبوله ، رغما عن أنف المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا التي ثارت ثائرتها وشرعت تُذكّر بـ"وعود الوزير الأول الفرنسي"، مظهرة احترامها لـ"استقلالية" المجلس الأعلى للسمعي البصري والقضاة الإداريين. وبطرافة غير مقصودة، شجب المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا "الضغوطات الخارجية" المتعلقة بالملف.

وطُبّق قرار الإذن ببث قناة (المنار) في كامل الاتحاد الأوروبي، وفقا للاتفاقيات الدولية، رغم أنه صادر عن المجلس الأعلى للسمعي البصري الفرنسي.

المشهد الثاني: ذريعة الإخلال بالنظام العام

وفي نفس السياق، إستضيف الوزير الأول السابق ذو التوجه الاشتراكي، لورون فابيوس، في منتدى الإذاعة اليهودية، وهي إذاعة أسسها الصندوق الاجتماعي اليهودي، المدمج والمستقر في مقرات المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا. وذكر أنه "مصدوم" وساخط من "اللغة المزدوجة" لحكومة رافاران، مُبيّنا بدوره تصوره الرفيع لـ"استقلالية" المجلس الأعلى للسمعي البصري.

وبحنق، نشر المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا بيانا جديدا، جاء فيه: "إن قرار المجلس الأعلى للسمعي البصري القاضي بالترخيص لقناة تلفزيون حزب الله، المنار، يساوي ترخيصا رسميا تقدّمه فرنسا للدعاية المعادية للسامية. وإذا كانت اللجنة الوزارية لمكافحة العداء للسامية لا تزال تملك حسّا، فإن اجتماعها لم يكن أكثر من ضرورة قبل اليوم. ونحن نريد أن نعرف موقف رئيس الجمهورية حول القضية التي خلقها المجلس الأعلى للسمعي البصري".

ولم يكن الحزب الاشتراكي بمعزل عن الأحداث، حيث وصف قناة (المنار) بأنها "أداة دعاية لصالح الإرهاب ومعاداة السامية". وكتب أمينه العام فرانسوا هولند إلى المجلس الأعلى للسمعي البصري: "كيف يمكن لنا أن نتصور بجدية أن قناة حزب الله التي تبث صورا تدفع الأطفال إلى الحقد والشهادة، يمكن لها أن تراجع برامجها جذريا وهي تحوي في طياتها كلاما أجوف لا يتماشى والقيمَ التي تؤسس للاتحاد الأوروبي؟" .في حين أن مركز "سايمون ويسنتال" أكد باتزانه المشتهر أن "المجلس الأعلى للسمعي البصري وباقي الرسميين الذين سلّموا لحزب الله رخصة للقتل (...) سيتحمّلون مسؤولية كل النتائج العنيفة التي تنتج عنها".

وألمح جوليان دراي، الناطق الرسمي للحزب الاشتراكي الفرنسي، بأن قرار المجلس الأعلى للسمعي البصري يمكن أن يكون قد اتُّخذ في إطار مفاوضات متعلقة بتحرير الرهائن الفرنسيين بالعراق، وهذا خلط طريف تناقلته كل الصحافة.
ولم تكن هذه الضجة عديمة المفعول. ففي 30 نوفمبر، أخطر المجلس الأعلى للسمعي البصري مجلس الدولة فيما يخص القانون الجديد بسبب تصريحات تؤثر على النظام العام وكذا انعدام النزاهة في معالجة المعلومة. حيث أن القناة تطرقت إلى نص، في معرض حديثها عن أقوال الصحف، يؤكد أنه "شهدنا خلال السنوات الأخيرة محاولات صهيونية لنقل أمراض خطيرة عبر تصديرها لمنتجات للعالم العربي مثل الأيدز. إن هذا العدو لن يتورع عن القيام بأعمال يمكن لها أن تصيب صحة المواطنين في الدول العربية والإسلامية" .

وقام النائب رودي سال، رئيس مجموعة الصداقة البرلمانية الفرنسية الإسرائيلية، باستدعاء وزير الاتصال إلى الجمعية الوطنية وأعاد الاحتجاج بقضية الإخلال بالنظام العام، حيث قال: "إن هذه القناة تبث باللغة العربية، والفرنسية كذلك. تصوروا الأثر الذي يمكن أن تقود إليه رسائل الحقد والعنف ضد اليهود في مدننا وضواحينا". وأجاب الوزير بأن الجمعية قامت بالمصادقة على قانون جديد وسيتم تطبيقه بصرامة.

ولكن مع التخوف من أن مجلس الدولة سيكون من العسير إقناعه بمنع بث قناة تلفزيونية لم تقم سوى بعرض قراءة في الصحف، اقترح الاتحاد من أجل الحركة الشعبية على الجمعية الوطنية بسرعة أن تقوم بتقوية هذا القانون الجديد.

وفي جلسة أسئلة أخرى موجهة للحكومة، نادى بيير لولوش، وهو نائب عن الاتحاد من أجل الحركة الشعبية ورئيس الجلسة البرلمانية في حلف الناتو، وزير الاتصال بهذه العبارات: "إن قناة المنار ملك لجماعة إرهابية تنتمي لحزب الله، والحزب كان المسؤول عن العمليات التي نُفّذت في شارع ران وسوق لافاييت بباريس في عامي 1985 و1986، وقامت باختطاف عدد من المواطنين الفرنسيين، ومن بينهم جان بول كوفمان ومارسيل فونتان. إن هذه القناة تبث يوميا نداءات لقتل يهود إسرائيل، وبدرجة ثانية النصارى. وقبل عام، بثت القناة في فرنسا مسلسلا بعنوان "الشتات"، وهو يعيد الدعاية النازية المتعلقة بـ "بروتوكولات حكماء صهيون"، حيث يُظهرون المؤامرة اليهودية على العالم، أين قام اليهود حسب هذه الروايات بذبح طفل نصراني ليستخدموا دمه في تحضير فطائر لعيد الفصح اليهودي.

إن هذا المسلسل قاد رئيس المجلس الأعلى للسمعي البصري، السيد بودي، إلى إخطار العدالة ووكيل الجمهورية في شهر يناير الماضي. ومن حينها، لم يحدث شيء (...) لماذا وصلنا اليوم إلى الترخيص لقناة إرهابية؟" . وهو تدخل يحاول إضفاء صبغة احترام نزاهة المعلومة. وفي واقع الأمر، لم يربط أي تحقيق قضائي بين عمليات 1985 و1986 وحزب الله، وكان جان بول كوفمان ومارسيل فونتان موقوفين من طرف الجهاد الإسلامي، كما أن قناة المنار لا تدعو إلى اغتيال اليهود أو النصارى، ولكنها تدعو إلى مقاومة الاحتلال العسكري والعمالة، ثم إن مسلسل "الشتات" لا يقتبس من بروتوكولات حكماء صهيون. أما بالنسبة للشكوى المودعة من طرف المجلس الأعلى للسمعي البصري، فإن ذلك لم يكن سوى إعلام موجه لوكيل الجمهورية الذي كلف القاضية إيمانويل ديكو بفتح تحقيق، وهي لم تجد حججا مُقنعة لمتابعة الدعوى.

ومع الضجيج الذي أثاره الاشتراكيون والاتحاد من أجل الحركة الشعبية، أعلن الوزير رونو دونوديو دو فابر: "إذا اقتضى الحال استحداث وسائل قانونية إضافية [لمنع قناة المنار] فإن رئيس الحكومة والحكومة يهدونها إليكم" .

وفي جلسة نقاش بثت في محطة (فرنسا 3)، دعا عيسى الأيوبي، نائب رئيس شبكة فولتير، أمام بيير لولوش، لأن يخص قرار العقاب مسلسل "الشتات" فقط، إذا كان ثمة ما يستوجب العقاب، دون الجنوح إلى تعميم ذلك اعتباطيا على القناة. ولكنّ الوقت لم يكن وقت نقاش، وأوقف منشّط الحصة الحوار.

لا أحد يُخفي أن الهدف من حظر قناة المنار هو منعها من بث نشراتها الإخبارية، وتأتي المصادقة من أجل ذلك على أي قانون وكذا البحث عن أية ذريعة تمكّن من القيام بذلك. ولم يعد دومينيك بودي، رئيس المجلس الأعلى للسمعي البصري، يحاول الحفاظ على خيالية استقلال المجلس، وتوجه بسرعة إلى الوزير الأول ليتوصل معه إلى حل. وعقب اجتماع جمعهما، أعرب جان بيار رافاران عن نيته في إعادة دفع الآلية التشريعية عن طريق المرور بالاتحاد الأوروبي و"نصح" المجلس الأعلى للسمعي البصري بإلغاء اتفاقه مع القناة ، وهو ما دفع وزير الشؤون الخارجية الإسرائيلي إلى تقديم التهاني بذلك.

وهكذا، استقبل الوزير الأول وفدا من اللجنة اليهودية الأمريكية(AJC)، وهي منظمة أمريكية تنتمي للمحافظين الجدد ولها نفوذ قوي، وينتمي إليها شرانسكي، وتعمل تنسيقيا مع المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا. ولقد قامت المنظمتان بتنسيق إستراتيجي.. أوروبي. ففي بيان لها، شكرت اللجنة اليهودية الأمريكية رافاران وأوضحت: "إن قناة المنار وقنوات أخرى تبث رسائل تعتبر معادية للسامية ومعادية لأمريكا ومعادية للغرب في نفس الوقت، وهي لهذا لا يمكن لها أن تحظى بمكان في أوروبا تدعم التسامح والتعددية والسلام" . ولكي يتم الإجهاز على القناة نهائيا، تم إخطار مجلس الدولة للمرة الثالثة من طرف المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا باسم القانون الجديد.

واجتاحت العالم العربي موجة عارمة من السخط والغضب، وعُقدت المؤتمرات في لبنان ومصر، وكذا وردت التدخلات السياسية من كل حدب وصوب، بما في ذلك تدخّل عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية.

وأعلن المجلس الوطني للسمعي البصري اللبناني أنه سيقوم بإجراءات مماثلة، بمعنى أنه سيلغي الامتيازات التي حظيت بها وسائل الإعلام الفرنسية في لبنان إذا ما تم منع قناة المنار من البث في فرنسا.

وصدر القرار النهائي لمجلس الدولة الفرنسي في 13 ديسمبر 2004، حيث تم منع القناة من البث، ولكن ليس بسبب تهمة معاداة السامية الخيالية. "ليس من المستبعد أن القيام ببث حصص مفتوحة تصادم المادة 15 من قانون 3 سبتمبر 1986 [حماية الطفولة والمراهقة] سيكون لها نتائج ضارة بالحفاظ على النظام العام". وبعبارات أخرى، فإن قناة المنار مُنعت لأن الأخبار التي تبثّها يمكن لها أن تُثير شبابا يقومون بالإخلال بالنظام العام. وقال وزير الشؤون الخارجية الإسرائيلي باعتزاز: "لا يمكننا إلا أن نهنئ أنفسنا بهذا الإجراء المتّخذ ضد هذه القناة التي تبث خطابات الحقد الوحشي ضد اليهود والنصارى والبلدان الغربية" .

وباستعمال الغموض الذي عودتنا عليه، اشتكت جمعية "مراسلون بلا حدود" من الوسيلة المعتمدة ضد قناة المنار لكي تجد موقعا أفضل تتهم من خلاله هذه القناة بنشر "عبارات غير مقبولة ومعادية للسامية" . وعلمنا بعدها كيف أن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إي) و(إن إي دي) تموّل هذه الجمعية التي يُفترض بها أن تدافع عن حرية الصحافة.

ومن الناحية التقنية، لكيما توقف "أوتلسات" بث قناة المنار في أوروبا، كان يقتضي ذلك أن تقطع المؤسسة في نفس الوقت بثّ قنوات الشارقة وقطر والسعودية والفضائية الكويتية وقناة الجماهيرية والسودان وعمان والفضائية المصريــة. وحتى لا تُحمّل المنار غيرها من القنوات ثقل مشكلة الرقابة التي وقعت هي ضحيتها، رمت المنشفة وألغت عقودها. وبقيت المنار تبث عبر الأنترنت والقمر الصناعي "عربسات 2ب" في الدرجة 30.5 شرق، وقمر "بدر" 3 إلى 26 درجة شرق، وكذا "نايل سات 102" في الدرجة 7 غرب.

ولكي تمرر وزارة الاتصال هذا القرار إلى الرأي العام، نظمت حملة سمّتها "العيش معا". وأرسلت المؤسسات الثقافية ومؤسسات السمعي البصري العامة رسائل تشرح أن "الحقد واللاتسامح لا حق لهما في التواجد بيننا"، وهو ما قاد إلى حظر قناة المنار. ومن أجل ترشيد الشباب المستاء، أعادت قناة "آرتي" بثّ مسلسل "الهولوكوست".

وفي تلك الأثناء، قام نيكولا ساركوزي، رئيس الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، بجولة احتفالية قادته إلى إسرائيل، حيث التقى بأرييل شارون وعدد من المسئولين السياسيين. وتبجح حينها بأنه مع حزبه لعبا دورا مركزيا في حظر صوت حزب الله.

المشهد الثالث: تعميم الرقابة

بينما كانت الطبقة الحاكمة الفرنسية تناضل من أجل صنع إطار قضائي يسمح بحظر قناة المنار، كانت هناك آلية مماثلة تجري بأستراليا، وذلك بمبادرة من النائب العمالي روبرت راي. وتم بموجبها حظر القناة من القمر الصناعي (تاربس).
وبطلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، تم إنشاء خلية تنسيق بواشنطن لكي تطال الرقابة كل أنحاء العالم، وسميت "التحالف ضد الإعلام الإرهابي" (CATM) ، واتخذ هذا التحالف موضعا في مقرات مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهي منظمة صهيونية قوية.

ولم يترك توثيق هذه المؤسسة شكا في مآل هذه الحملة، وهو إسكات صوت حزب الله تحسبا لعمل عسكري في لبنان. ومن بين مسئولي هذه المؤسسة، كان هناك كتّاب قاموا بوضع مخطط الهجوم على لبنان مثل ريتشارد بيرل وجنود ميليشيات في زمن المأساة كوليد فارس. وإلى ذلك الحين، لم يكن الفرنسيون والأستراليون جميعهم على علم بالجرائم التي كانوا يُحضّرون لارتكابها، والتي لم تعد تخفى على أحد اليوم.

ولأن الحكومة الفرنسية تحولت إلى رسول لقيادة القوات المسلحة الإسرائيلية، فإنها وضعت موضع تطبيق إستراتيجية متفق عليها مع اللجنة الأمريكية اليهودية، حيث قامت بتسجيل مسألة حظر هذا النوع من القنوات في جلسة مجلس الوزراء الأوروبي. واستُلم الملف من طرف المحافظة الأوروبية المكلفة بمجتمع المعلومة ووسائل الإعلام، فيفيان ريدينغ. وعملت بالتنسيق مع المكتب المتواجد ببروكسل، والذي فتحه الرئيس التشيكي السابق فاكلاف هافيل لصالح مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وضعت محافظة الدولة قناة المنار في قائمتها المتضمنة "منظمات إرهابية" . وكانت القناة أول مؤسسة إعلامية توضع ضمن هذه القائمة، واعتُبر ـ من ثمّ ـ كل سبق صحفي تحوز عليه القناة "قنبلة حقيقية"، ولا نفهم ماذا يعني هذا. ومهما يكن، فإن قمري (أنتل سات) و(غلوبكاست) ـ وهي فرع من فروع الاتصالات الفرنسية ـ قاما بمنع بث قناة المنار في أمريكا الشمالية.

وبالنسبة لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص، فإن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بفبركة هذه القضية حتى يتسنى لها منع إبداء وجهة نظر مغايرة في أوروبا وأمريكا. "إن واشنطن تنعت بـ "الإرهاب" حق المقاومة ضد المحتل الإسرائيلي وبـ"حق الدفاع عن النفس" ممارسات الإرهاب الإسرائيلي واستيلاء إسرائيل على أرض يملكها شعب آخر". وردا على هذا الإجراء، قامت أغلبية المتعاملين اللبنانيين عبر الكابل بتوقيف بث القناة الفرنسية (تي في 5).

وفي شهر يوليو 5، جاء دور وزير الصناعة والتجارة الإسباني الذي سحب إشارة قناة المنار من القمر الصناعي العمومي (إيسباسات) الموجه صوب أمريكا اللاتينية. وتدخل مركز سايمون ويسنتال أمام الحكومة الفرنسية لكي يقطع (غلوباست) الموجه صوب آسيا، وهو فرع آخر من فروع الاتصالات الفرنسية، إشارة القناة. وفي يناير 2006، أمر وزير العدل الهولندي بقطع إشارة القناة في (نيو سكايز ساتيلايت) الذي يبث هو بدوره في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي مارس 2006، قام قطاع الخزينة الأمريكية بتجميد عائدات المؤسسات المرتبطة بقناة المنار في البنوك الأمريكية.

المشهد الرابع: التصفية الجسدية

في 12 يوليو 2006، أسر حزب الله جنديين إسرائيليين أثناء مناوشات وقعت في مزارع شبعا. وهذه المنطقة تعتبر منطقة لبنانية في نظر المجتمع الدولي، ولكنها محتلة من طرف إسرائيل التي تعتبرها سورية.

واستُغلت هذه الواقعة كذريعة لشن عملية عسكرية كبيرة ضد لبنان. ومنذ بداية العمليات في 13 يوليو، قصف الطيران الإسرائيلي استوديوهات قناة المنار ببيروت حتى يخنق إلى الأبد صوت حزب الله. وخلّف القصف ثلاثة جرحى في حالة خطيرة.

وفي تلك الأثناء، واصلت المقاومة اللبنانية بث برامجها، ولكنها مسجّلة ومتقطعة، انطلاقا من أماكن لم يتم الإعلان عنها، وتمكن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، من مخاطبة المواطنين اللبنانيين وتزويدهم بأخبار عن الجبهة.

وختاما، قصفت القوات الإسرائيلية في 22 يوليو كل محطات البث لكل القنوات اللبنانية لكي تتأكد من أنه لا قناة أخرى تقوم بتوصيل إشارة قناة المنار، ولكن قمر عربسات واصل بثها، كما أن القناة بقيت حاضرة في موقعها عبر الأنترنت.

وكإجراء وقائي، استعمل حزب الله مركزا خادما متواجدا في الهند. ولكنّ الحكومة الهندية مخافة تعريض عقدها النووي الجديد مع الولايات المتحدة الأمريكية للخطر، قطعت اتصاله باستعمال صلاحياتها الحكومية حتى "تحافظ على علاقات طيبة مع دولة صديقة"، غير أن الموقع عاود الظهور.

لكي يفهم العالم ما الذي يحدث في لبنان وفي فلسطين المحتلة، عليه أن يستقي معلوماته من الوكالات الصحافية الكبرى الخاضعة للرقابة العسكرية الإسرائيلية، والمجهودات التي تبذلها إسرائيل منذ ثلاث سنوات للقضاء على قناة المنار تأتي متناسقة مع الجرائم التي تريد إخفاءها.

ترجمه: مصطفى فرحات