في دمشق، يبدو موضوع الانتخابات البرلمانية كغيره من المواضيع اليومية. البعض غير مكترث. البعض غير معني بفكرة إبداء الرأي والمساهمة بصنعه. والبعض غير مؤمن بأهمية رأيه في تغيير مجرى الانتخابات. البعض أضاع بطاقته الانتخابية، والبعض لا بطاقة انتخابية لديه. فالبطاقة الصغيرة هي جزء من التواطؤ المعلن بين الشعب والنخبة. بطاقة صغيرة توضع في جزادين الناس، أو في خزاناتهم، أو تحت وساداتهم. بطاقة ملونة بالأختام التي توحي للآخر بأنه انتخب، وبأنه أدى واجبه كمواطن في مجتمع يؤمن بالانتخاب والتصويت.

في دمشق، البعض القليل الذي يمتلك القدرة فعلياً على التغيير، لم يع حتى الآن أن إبداء الرأي ليس تلك البطاقة الصغيرة التي تطعج في منتصفها ليتسع الجزدان الصغير لها. إبداء الرأي لن يكون حتماً تلك الحملات الدعائية التي تعج بها العاصمة قبل الانتخابات بأسابيع. إبداء الرأي هو ربما تلك التربية التي نفتقد إليها في المدارس والجامعات ومراكز العمل الحكومية. أن تبدي رأيك وتكترث للانتخابات، هو بالضبط أن تمارس حرية التعبير التي تعلمتها في الكتب المدرسية وفي الحوار المنفتح مع الأساتذة الجامعيين وفي ممارسة النقد الذي تتحدث عنه كتب القومية وفي الدفاع عن الحق المشروع بالمشاركة بصنع حياة مختلفة.

في دمشق، البعض الكثير لا يتردد بإظهار لا مبالاته بالانتخابات البرلمانية. فالتربية المدرسية التي تعتمد على حفظ المعلومات عن ظهر قلب، لا تمنح الطالب فرصة تعلم أهمية المبادرة وإبداء الرأي بأمر ما، أو بإجراء ما، أو بموضوع ما. تنتهي المرحلة المدرسية، مع انتهاء قدرات الطالب على ممارسة أبسط التفاصيل المتعلقة بالمشاركة. تأتي المرحلة الجامعية لتكرس عقلية الحفظ وترديد المعلومات ونسخ الأفكار الواردة في الكتب على أوراق الامتحان المؤتمتة. حتى الامتحانات صارت مؤتمتة فالطالب الذي ينال علامة ممتازة هو الطالب الذي يحفظ بشكل ممتاز وينسى بعد الامتحان مباشرة ما حفظه أيضاً بشكل ممتاز.

في دمشق، تعج الجدران والأعمدة الكهربائية والأشجار التي لم تنج هي أيضاً بصور المرشحين للانتخابات البرلمانية. الشوارع تحتضن صورهم بكل تسامح متجاهلة الانتخابات البرلمانية السابقة. تحتضن صوراً مجرد صور كتبت تحتها أسماء المرشحين وجملة وحيدة تلخص الوعود والبرامج والخطط. فالمواطن مدعو في دمشق إلى التمعن بصور المرشحين والمرشحات، والتحديق طويلاً في حجر أعينهم علـّه يفلح بالولوج إلى أرواحهم والحدس ببرامجهم ووعودهم. فهذا المرشح ينظر إلى عدسة الكاميرا بطريقة جانبية فيبدو أكثر جدية من غيره. وذلك المرشح تمنحه النظارات وقاراً وهيبة. وتلك المرشحة تبدو غير جدية بطموحاتها أما الأخرى فوجهها يمنح طمأنينة وراحة. المواطن مدعو لتدوين جمل المرشحين المختزلة، وقراءتها بعمق في البيت ليختار أخيراً الجملة التي تناسب حاجاته وطموحاته. «المرأة أمّ الوطن»، «مكافحة البطالة مسؤولية وطنية سلاحها الصناعة»، «الوطن أمانة في أعناقنا»، «حريتك ملك لك»، «الكفاءات الشابة تجعل الوطن شابا»، «يداً بيد بالحب نبني الوطن»، أو حتى «انتخبوا مرشحكم فلان مدير حلويات السمان». هنا، قد يرتبك المواطن. فالخيارات واسعة والأولويات صعبة وجسيمة من اقتصاد إلى دور فعال للمرأة إلى الحلويات الشهية إلى بناء الوطن وإلى أشياء أخرى. لكن المواطن ليس مدعواً بطبيعة الحال إلى التعرف على خطط المرشحين لتحقيق هذه الأهداف السامية والمختزلة. وقد ذهب أحد المرشحين إلى حد ذكر اسمه الحركي «أبو العز» خوفاً من أن لا يعرفه أصحابه باسمه الكامل.

في دمشق، وجهت المحافظة احتجاجاً واضحاً عبر وسائل الإعلام المحلية. لا يكمن اعتراضها في الوعود المختزلة ولا في صور المرشحين الجميلة أحياناً والمصطنعة كل الأحيان، ولا في تشويه بعض الصور كتلوين المارة والأطفال لأسنان المرشحين الضاحكين، وإنما يكمن في الاعتراض على الفوضى التي تجتاح الشارع وعلى طريقة تعليق بعض اللافتات حيث تعرقل حركة السير المنتظمة أصلاً في دمشق. وحدهم تجار الأقمشة والخطاطون تهمهم الانتخابات البرلمانية وتنعش تجارتهم لفترة قصيرة.

في دمشق، البعض الكثير لا تعنيه الانتخابات. ولا تعنيه هي نتيجة منطقية للتربية السائدة. وعدم الاكتراث هو الطموح الحقيقي الذي يسعى البعض القليل إلى تعميمه. واللامبالاة هي حرية التعبير بعينها. حرية أن ندافع عن التربية التي اكتسبناها في كل مراحل الحياة. حرية أن نكون لا مبالين بانتخابات لم نكن يوماً طرفاً فيها أو في حملاتها الإعلانية أو في مناسفها الشهية.

البعض الكثير يدافع عن حرية التعبير، عن حرية الشارع بعدم الاكتراث، عن حق المواطن بإبداء رأيه بألا يبدي رأيه، بأن يصمت...

مصادر
السفير (لبنان)