لا شك في ان جاك شيراك سيترك مقعده الرئاسي وفرنسا دولة يحسب حسابها في السياسة الدولية في حين انها فقدت قوتها كـ"نموذج" لمعالجة المشاكل الداخلية.

"فرنسا التي تسقط" هو عنوان الكتاب الصادر عام 2003 لنيكولا بافيريز الذي ضمه ساركوزي مبكرا الى فريق الخبراء المحيط به منذ بدأ التحضير لمعركته الرئاسية، وكان "المانيفستو" الابرز في الاعلان عن هذه الحالة الفرنسية. لقد درج العديد من المعلقين الاوروبيين والاميركيين على تسمية فرنسا في السنوات الاخيرة بـ"رجل اوروبا المريض". كان المعيار الاساسي هو التخبط في معالجة المشاكل الاقتصادية – الاجتماعية، وغالبا ما كانت المقارنة تقام مع تجربة رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير وتأتي النتيجة لصالح بلير.

احد اكبر اهداف الرئيس الجديد المقبل لفرنسا هو "تحرير" سوق العمل الفرنسية باكثر ما يمكن من الضمانات التقليدية للمستخدمين والعمال والتي بلغت ذروتها مع نجاح الحكومة الاخيرة للحزب الاشتراكي في اقرار نظام الـ35 ساعة عمل. الا ان المفارقة ان مستخدمي القطاع الخاص المفترض ان يكونوا الاكثر تضررا او خوفا من "اصلاحات" ساركوزي هذه اعطوا اصواتهم له بنسبة اكثرية تصل الى 54 في المئة، كما اورد امس جان ماري كولومباني في افتتاحيته في "اللوموند". ومن المهم التذكر ان العنصر الاساسي الآخر الذي يقف وراء انتصار ساركوزي كان "الأمن"... او شعور عدد متزايد من الفرنسيين بالضغط الشديد الذي تولّده قضايا المهاجرين. نحن المراقبين العرب والمسلمين من وراء البحار نفضّل ان نطلق على الملف المتعلق بالمهاجرين اسما اجتماعيا لا امنيا. لكن على ما يبدو هناك اغلبية بين اصوات الفرنسيين يحركها "الخوف الامني" حين تتوجه الى صناديق الاقتراع، وهذا ما ينبغي التوقف عنده بقوة اكبر من اي وقت آخر بعد فوز ساركوزي "الواضح". وعلى رغم الفروقات الجوهرية بين نظرتي كل من السيدة سيغولين رويال ونيكولا ساركوزي الى مسألة المهاجرين، ينبغي عدم النسيان ان كلا الشخصيتين، كممثلين لليسار واليمين، لا يقبلان وضع "النموذج" الفرنسي للاندماج الثقافي - الاجتماعي على بساط البحث، اي لا يقبلان اي اعادة نظر به كنموذج، وانما تتركز اختلافاتهما اساسا حيال هذه المشكلة المتفجرة على حساسية يسارية اكثر نحو "الاجتماعي" مما هي الحساسية اليمينية نحو "الأمن" والنظام.

إذن جاءت الانتخابات الرئاسية الفرنسية لتحمل معها "يمينا متجدداً" استطاع نيكولا ساركوزي ان يجسّد صورته، في حين، وعلى الرغم من كل الاعجاب الذي احاط بقوة شخصية سيغولين رويال وثباتها وكفاءتها فان "اليسار" لم يتمكن من ان يقدم نفسه في حلة جديدة، الى حد، انها هي نفسها كانت حريصة في حملتها الانتخابية على اخذ "مسافة" ما عن الحزب الاشتراكي الذي رشحها! وليس صدفة في هذا السياق ان يكون احد الكتب المتداولة في باريس هذه الايام تحت عنوان: "مجتمع الاشتراكيين" الذي يتحدث كاتباه عن التحولات التي طرأت على الحزب وجعلت قياداته وكوادره الاساسية تصبح اقل اتصالا بالقواعد الشعبية عما كانت عليه.

من الصعب تسمية الرئيس الآتي لفرنسا "محافظا جديدا" على طريقة "المحافظين الجدد" الاميركيين لان اختلافات عديدة تفصله عنهم، ولان فرنسا لا يمكن ان تنتج "صورة طبق الاصل" لـ"المحافظين الجدد" الاميركيين. فالرئيس المنتخب ساركوزي يبدو بهذا المعنى اقرب الى "رونالد ريغان" او "مارغريت تاتشر" فرنسية في ميله نحو تفكيك القيود عن حرية اكبر في سوق العمل. لكن رؤيته لقضايا المهاجرين فرنسية جدا ومختلفة تماما عن "النموذج الاميركي" الذي لا فارق جوهريا فيه على هذا الصعيد داخل اميركا بين "محافظ جديد" او جمهوري عادي او حتى ديموقراطي. انه الفارق بين النموذجين الفرنسي والاميركي، من حيث ان الثاني اكثر قبولا للتنوع الديني والعرقي من الاول واكثر تصالحا – اصلا – في فهم علاقة الدولة بالدين مما هو النموذج الفرنسي. لكن نيكولا ساركوزي ليس جان ماري لوبان. وهو يأتي على رغم سمعته المتشددة في التعامل – او حتى التسبب – مع وبــِـ احداث الضواحي العنفية في العام المنصرم، من تراث يمين الوسط الفرنسي وحزبه "الديغولي". وبالتالي فان الضوابط التلقائية على معالجاته الآتية في هذا المجال ستكون فعالة.

هنا نصل الى موضوع العلاقة مع اسرائيل وميوله المعروفة نحوها. سيكون من المبكر طبعا التكهن بنوع التحولات في "السياسة العربية" لفرنسا في عهده من الآن. ثم ان ساركوزي يأتي في زمن لم يعد فيه "ضغط" الصراع العربي – الاسرائيلي على السياسات الاوروبية – ومن ضمنها الفرنسية – بالشكل الحاد الذي كان عليه في السابق، مما سيعطي للرئيس الجديد على الارجح هامشا اوسع للتوفيق بين ميوله "الاسرائيلية" ومصالح فرنسا العربية بل وتقاليد فرنسا "الفلسطينية" بيمينها ويسارها معا، بينما – لا شك – سيثير التزامه "الانتخابي" برفض انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي عواصف اكبر سواء داخل فرنسا وفي اوروبا وتركيا وحتى اجزاء من العالم المسلم. والموقف من ايران سيكون كما كان في عهد شيراك جزءا من الايقاع الاوروبي – الاميركي المتناغم في الضغط على طهران.

اما لبنان... فمن السذاجة الحديث عن تغيير سريع في التزامات الدولة الفرنسية لانه على الرغم من الطابع الشخصي جدا، الذي لن يتكرر طبعا بالطريقة نفسها، فان جاك شيراك ادار عبر لبنان سياسة مصالح للدولة الفرنسية من بيروت الى الرياض ومن الرياض الى كل الخليج النفطي.

• • •

الخلاصة: عهد ساركوزي سيكون سنوات اختبار طاقة "النموذج الفرنسي" على تغيير نفسه من اليمين؟ هذا داخليا، اما خارجيا، فسيكون على الارجح عهداً آخر تتأكد فيه حقيقة كيف تفرض المصالح العليا للدولة الفرنسية نفسها... على ميول رئيسها مهما كان ديناميكيا ومتجددا.

مصادر
النهار (لبنان)