بعد وفاة باروخ كيمرلينغ، قد يكون من المفيد إعادة صياغة مقولة «الابادة السياسية» للشعب الفلسطيني وهي المقولة التي اشتقها، في ضوء جديد يسلط على منفذين لم يخطروا على بال الباحث الاسرائيلي.

لم تثر طروحات أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس ضجة كبيرة على الرغم من إدخاله منهج الدراسات ما بعد الكولونيالية الى ميدان الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وعلى الرغم من تشريحه لآليات بناء السلطة في اسرائيل وانضمامه الى مجموعة من الباحثين في ما بات يسمى «ما بعد الصهيونية». ما يعنينا في المقام الاولى هو فكرة «الابادة السياسية» التي عرضها في كتاب له صدر في العام 2003 وحمل عنوان «الابادة السياسية: حرب شارون على الفلسطينيين».

ملخص المقولة ان ارييل شارون الذي كان يشن حرباً للقضاء على الانتفاضة الفلسطينية الثانية، يمارس في واقع الامر «إبادة سياسية» بحق الفلسطينيين ترمي الى جعلهم كمّاً مهملاً من الكائنات البشرية لا تجمعها قضية باستثناء تدبر شؤون معاشها ولقمة خبزها. ويرى كيمرلنغ أن شارون لجأ الى بناء جدار الفصل والتدمير المنهجي لمؤسسات السلطة الفلسطينية أثناء اجتياح قواته للضفة الغربية في ربيع العام 2002 وقبله وبعده الى جانب تصعيد الاغتيالات بما يفقد الفلسطينيين قسماً مهماً من نخبهم السياسية، بهدف محو أي إشارة الى إمكان قيام كيان فلسطيني قابل للتطور نحو الاستقلال، مع احتفاظ شارون، في الوقت ذاته، بتكرار أجوف لا يخلو منها أي من خطبه وتصريحاته عن السلام والاستقرار...

تقتضي الموضوعية الاقرار لشارون بتحقيقه نجاحات مهمة في مشروعه هذا، قبل أن يسقط في غيبوبته. ومن علامات النجاح، الاقتتال الفلسطيني في غزة والازمة التي تعصف بالمشروع وبالحركة الوطنيين الفلسطينيين. واذا أراد المرء إضفاء شيء من المبالغة في توصيف الوضع الفلسطيني، لقال ان الورثة الحقيقيين لمشروع «الابادة السياسية» موجودون في الصف الفلسطيني أكثر مما هم في الصف الاسرائيلي. لقد أطلق شارون دينامية «الابادة السياسية» ثم بدأت هذه تتغذى من الأرض الخصبة للافلاس السياسي الفلسطيني، والعربي استطرادا، لتقدم خدمة جلّى الى التصور الشاروني.

ما يتعين الالتفات اليه في هذه الايام، الى جانب ما يجري في غزة من اقتتال ومن دخول اسرائيلي على خطه، يوازي التأكيد على فشل الفلسطينيين في وضع تصور مشترك لمستقبل قضيتهم (من دون نكران حجم الضغوط التي مورست على الفلسطينيين من العرب الآخرين في هذا المجال)، هو ان الحرب الدائرة في مخيم نهر البارد لا تنفصل، في السياق والمجريات والخلفيات، عن الابادة السياسية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.

لقد أصبح الجسد الفلسطيني واهناً الى الحد الذي يستدعي طفيليات أمنية وسياسية من نوع «فتح الاسلام» لتستوطن فيه. وأصبح الجسم اللبناني ضعيفاً ومفتقراً الى المناعة على نحو لم يعد قادراً على التمييز بين الظواهر المتوالدة بين ظهرانيه قبل أن تنفجر هذه على شكل هجمات عسكرية واسعة النطاق على الجيش اللبناني والقوى الامنية. بهذا المعنى يكون لبنان والفلسطينيون الذين يقيمون فيه قد تعرضوا جميعا الى نوع من «الابادة السياسية» التي يشهدون اليوم بعضاً من تبعاتها.

وفي حالة لبنان، يصعب إلقاء تهمة تحضير الاجواء لهذا التدهور في الوضع الامني وعلى انسداد آفاق المعالجات السياسية على اسرائيل، أو على أي جهة بمفردها. ولن يكون تحميل سوريا مسؤولية جميع ما يتعرض له اللبنانيون منذ عامين ونيف، أكثر طيشا وصبيانية من تحميل المسؤولية هذه الى اسرائيل والولايات المتحدة. ان الواقع اللبناني الذي يفرز منذ القرن التاسع عشر الاسباب المهيئة للحروب الاهلية وما يرافقها من تدخلات خارجية حتمية، هو ما يستأهل إعمالا للنظر لناحية العناء الشديد الذي يلاقيه أهل لبنان في التوافق على طريقة للعيش معا ضمن كيان واحد.

هذا العناء في تقبل الآخر واستسهال رفضه على الاستماع اليه والى اعتراضاته على شركائه، يفسر جزئيا الاسلوب الذي تظهر فيه التصدعات في بنية الدولة والمجتمع في لبنان. وهو استسهال يبلغ حد الوصول الى المطالبة بإعادة تقييم كل الاسس التي تقوم الدولة عليها عند كل مفترق وأمام كل استحقاق. ومهزلة التفسيرات المتناقضة لنصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية (وهو سجال لم يتوقف منذ أيام الجمهورية الاولى) قمينة بأن تعطي فكرة عن مستوى إدراك اللبنانيين لما يحيط بهم من تغيرات يحملها اليهم عالم اليوم. إدراك لا تتجاوز أدواته مباريات الزجل الخطابي الفارغ، حتى لو كانت حياة عشرات آلاف اللبنانيين والفلسطينيين على المحك.

والحال، أن كيمرلينغ رحل بعدما كشف ممارسة سياسية كان ينفذ قسماً منها ارييل شارون، في حين أن القسم الاكبر من إنجاز مهمة «الابادة السياسية» للقضية الفلسطينية ولكل القضايا العربية، يقع في الدرجة الاولى على عاتق ورثة يبدون وقد حازوا على ثقة شعوب هذه المنطقة لقيادتها الى التهلكة وسوء السبيل.

مصادر
السفير (لبنان)