عادت إسرائيل إلى تسريب المعلومات بشأن التفاوض مع سورية. وعقدت الحكومة الإسرائيلية بطاقمها الأمني السياسي اجتماعاً خاصاً امس لمناقشة المسار السوري. وطبعا يأتي الإعلان عن هذه الخطوات بعد تسريبات من ضباط الى الصحافيين، أو تسريبات من سياسيين عن ضباط يحثون اولمرت على فتح المسار السوري للاتصالات والتفاوض من جديد. وكأن هنالك مصلحة إسرائيلية يجب الالتصاق بها في هذه الفوضى الإقليمية بغض النظر عن المصلحة الأميركية. وهم يحذرون من سوء تفاهم يؤدي إلى تدهور الوضع الى حرب بسبب محاولة كل طرف اجهاض خطط مفترضة لدى الطرف الآخر.

من الواضح أن الجيش الإسرائيلي وضباط استخباراته هم أقل تأثرا بالرأي العام والانتخابات والاستطلاعات حول الاستعداد للانسحاب من الجولان المحتل. وهم يعتقدون منذ مؤتمر مدريد أن السلام مع سورية مسألة استراتيجية للحرب والسلام قياسا بقضية «الضفة والقطاع». وعلى هذا الأساس يرتبون أولويات التفاوض لو ترك القرار لهم وليس لاستطلاعات الرأي العام وتطلعات وحسابات السياسيين الانتخابية المباشرة.

ولكن حاليا، أي بعد فشل العدوان الأخير على لبنان، وبعد فشل وتعثر التفاوض مع السلطة الفلسطينية، منذ ان رفض ياسر عرفات قبول ثوابت الاجماع الإسرائيلي في كمب ديفيد وحتى رفض إسرائيل، ومعها من معها، نتائج الانتخابات الفلسطينية، يتوجه الرأي العام الإسرائيلي أيضا الى فهم ضرورة التفاوض مع سورية... من دون تعمق خاص بالموضوع.

لا يختلف اثنان في إسرائيل على ثمن التسوية مع سورية، ولكن كل هذا التحرك يتم من دون مراجعة الموقف الإسرائيلي الذي أدى الى فشل المفاوضات مع سورية في جولات سابقة. وهو فشل تحملها مسؤوليته حتى مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة. وكاتب هذا المقال يحمل المسؤولية لايهود باراك ودنيس روس بشكل محدد. والاخير كان شريكا لباراك في المؤامرة لاقتناص انجاز في اللحظة الاخيرة. (وعلى كل حال فإن دور دنيس روس في المفاوضات العربية - الإسرائيلية منذ مدريد لم يدرس بشكل كاف بعد، ولأي جهات ولمصلحة من عمل طيلة هذه الفترة؟ هذه ملاحظة أضعها امام الباحثين المهتمين بهذا الشأن، وأولئك الذين شاركوا في المفاوضات، ولم يكتبوا عنها بعد).

ونحن لم نسمع عن تغير في الموقف يذهب الى قبول الانسحاب الكامل من هضبة الجولان اساسا للتفاوض. وإذا لم يتم ذلك فلا معنى لكل الأحاديث الاخرى. واهتمام إسرائيل منصب على «عملية سلام» حتى لو لم تنجب سلاما، وحتى لو كانت عملية متواصلة يصبح فيها الاتفاق مجرد اتمام معاملة، ولكن المعاملة لا تنتهي، وفي كل يوم تظهر مشاكل جديدة، واقتراحات إسرائيلية جديدة. ويبدو في هذا السياق التفاوضي الذي تريده إسرائيل اي إصرار على اي نتيجة كشروط مسبقة، وكموقف متصلب يعرقل عملية السلام، أو يشكل عقبة امام عملية السلام.

اما السلام نفسه، فهو هذه العملية ذاتها التي تستفيد منها إسرائيل لأنها تحيد القرارات الدولية بانتظار نتائجها التي تعكس موازين قوى ثنائية وليس مبادئ دولية، وهذا ما جرى للفسطينيين الذين وقعوا في فخ اوسلو... وكلما طال الزمن يصبح الطرف المعني بإنهائها والخروج بنتيجة ما أكثر استعدادا لتقديم تنازلات ليخرج بإنجاز ما من هذه البهدلة المستمرة من جلسة إلى أخرى ومن مصافحة الى اخرى ومن خطاب افتتاحي الى آخر وكل ذلك تلبية لحاجات انتخابية أميركية وإسرائيلية. العملية السلمية الإسرائيلية تستنزف الطرف العربي لأن الطرف الإسرائيلي هو المعني باستمرارها، وهو الذي يمسك بالأرض، إلا إذا كانت المفاوضات قد ولدت طرفاً عربياً تجمعه المصلحة نفسها باستمرارها.

سورية ليست من هذا النوع. وتُعاب على خطابها «خشبيته» لأنها تكرر الكلمات نفسها من نوع «العودة الى التفاوض من النقطة التي انتهت اليها المفاوضات» الى درجة التندر الصحافي. وكأن على سورية أن تغير مواقفها لكي تسلي بعض الصحافيين الذين يؤيدون بجرة قلم هجوما أميركياً على العراق أو إيران. لا يوجد ما تغيره سورية هنا. وقوة خطابها في تكراره، وليمل من يمل. ولا بد ان تعرف إسرائيل ان لا تفاوض على مبدأ الانسحاب الكامل. هذه قضية محسومة. الانسحاب هو أساس التفاوض. والتفاوض لا يدور حول الانسحاب، بل على شكل وشروط التسوية.

أي ولوج الى التفاوض من دون حسم هذه المسألة يلحق الخسارة بسورية، ولذلك فهي تنفر وبحق من المفاوضات السرية التي لا تلبث إسرائيل دائما ان تسربها. تنتصر غريزة التسريب عليها وعلى مصلحة التفاوض دائما، لتضع العرب أمام حقيقة أنها مقبولة من قبل هذا الطرف العربي، وأن مفاوضات سلام تجري معها فعلا قبل ان يتضح إذا كانت معنية بدفع ثمن التسوية... وهذه عملية تعويد للرأي العام وترويض له أن الرفض لا يجدي، وانه تحت السطح تجري صفقات. ولا يلبث ان يخرج كل من يؤيد تسوية بأي ثمن متلذذا بنشر «شي صار وشي ما صار» ليثبت لنا أنه لا يوجد عربي أفضل من الآخر، وأن الجميع متورطون. ولذلك كل من يأتمن جانب السرية الإسرائيلية لا يلبث ان تفضحه هذه الغريزة الإسرائيلية دائماً.

إسرائيل لم تحسم بعد مسألة الانسحاب الكامل. وإذا كانت قد حسمتها في سرها وعلى مستوى المعلومة والمعرفة، فهي لم تحسمها سياسيا وللتنفيذ على مستوى الإرادة. فما الجديد إذاً؟

قلنا في مقالات عدة نشرت في هذه الزاوية في الأعوام الثلاثة الماضية، أنه بعد 11 ايلول واحتلال العراق انتقل ملف المفاوضات السورية - الإسرائيلية الى اميركا، وأن الأخيرة تعتبر رفض التفاوض مع سورية جزءاً من الحصار المضروب عليها حتى تحقق الشروط الأميركية الخاصة بلبنان والعراق وفلسطين. وأن إسرائيل تعتبر هذا الترتيب مريحاً لانها غير جاهزة لدفع استحقاقات التسوية ولكنها تجد الآن مبررا لعدم التفاوض بجدية اذ يعتبر التفاوض كسرا للعزلة الدولية حول سورية واستفزازا لاميركا. ولا شك ان إسرائيل تستطيع ان تؤثر على هذا المزاج الاميركي لو ارادت.

الجديد ان العزلة الدولية حول سورية تنكسر تدريجا، وذلك من دون أن تغير مواقفها في العراق وفلسطين ولبنان. ومع فشل السياسات الاميركية في هذه المناطق تحول الموقف السوري الى عامل يدفع للاتصال مع سورية والحوار معها وكسر الحصار. ثم جاءت صدمة حرب لبنان التي دفعت الإسرائيليين عسكريين ومدنيين لقول رأيهم صراحة بهذا التجميد غير المنطقي من وجهة النظر الإسرائيلية للتفاوض مع سورية، مع أن هؤلاء يغفلون طبعا ان الأخيرة ليست رهن الإشارة، وأن هنالك شروطا لا بد من تحقيقها متعلقة بقبول اساس التفاوض وقاعدته.

ولكن هذا لا يكفي لتغيير مواقف أميركا وإسرائيل بشأن التفاوض. والتحرك الإسرائيلي الأخير لعقد جلسة للحكومة مخصصة لهذا الموضوع والذي انضم اليه حتى شمعون بيريز الرافض المعروف لهذا المسار وأحد من أفشلوه ايام رابين، يأتي مع إقرار المحكمة الدولية في لبنان.

لم يحصل تغير جذري على الموقف الإسرائيلي، بل نشأت برأي معارضي المفاوضات فرصة جديدة للتلويح بها الى سورية لتغيير موقفها بعد المحكمة الدولية: عصا وجزرة جديدان لسورية.

هنالك من يعتقد في إسرائيل ان الفرصة سانحة حاليا لطرح المفاوضات «من دون شروط مسبقة»، اي من دون أساس، وان سورية سوف تجدها فرصة ربما للتخلص من المحكمة الدولية. وأن أميركا سوف تجد لها مسارا جديدا للضغط على سورية بواسطة المفاوضات. العصا هي المحكمة الدولية، والجزرة هي إيجاد مخارج للتراجع عنها بشرط القبول بالشروط الإسرائيلية للتسوية، ومن ضمنها إعادة غالبية الجولان، ما عدا شريط على البحيرة، أي معادلة باراك دنيس روس ربما، ولكن بشرط كف يد سورية عن بقية القضايا والامور في العراق ولبنان وفلسطين، وربما التحول للعب دور «إيجابي».

وهذا طبعا فخ لقتال تراجعي. فحالما تلج سورية مفاوضات بهذه الشروط سوف تجد نفسها غير قادرة على «إسعاد» اميركا وإسرائيل، فكل تراجع سوف يفتح الشهية لتراجعات أخرى. وهي لا تستطيع مغادرة المفاوضات من دون إنجاز ولن تستطيع البقاء فيها من دون تنازلات لا تستطيع تقديمها، ولا يفترض أن تقدمها، ولا تريد تقديمها.

إزاء هذا الوضع سوف تجري محاولة لتذكير سورية بحال ليبيا والحصار الذي فرض عليها بعد لوكربي، وأن هناك ما تخسره سورية بعد انفتاحها الاقتصادي الاخير اكثر من ليبيا بعد لوكربي. نحو هذا الاتجاه تدفع سياسة اميركا واسرائيل وحلفائهما من قصيري النظر في المنطقة حاليا.

ولكن سورية لا تستطيع، حتى لو ارادت ان تخضع لهذه الشروط، وهي لا تريد. ولذلك فإن هذا الدفع الاميركي الاسرائيلي بهذا الاتجاه سوف يقوي من تحالفها مع إيران وتقاربها مع تركيا. ولن تكون بالإمكان هزيمة هذا التحالف، ولا هزيمة ما سوف يفرزه إقليميا. نحن لا نتحدث هنا عن ليبيا، ولا عن العراق بعد الحصار الطويل. وقد تحولت تجربة العراق ذاتها الى رادع عن تكرارها.

والتحالف المضاد هنا هو تحالف صريح مع إسرائيل ضد دولة عربية أراضيها محتلة من قبل، وهي جاهزة لتسوية سلمية قبل فحص الخيارات الأخرى لاستعادتها. كل من لا يرى ذلك بغض النظر عن نقده المشروع منه وغير المشروع، الصحيح منه وغير الصحيح، لسورية ولسياستها الداخلية والخارجية، مصاب في رأينا بقصر نظر خطير.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)