من وجهة نظر «بناء الأمة»، قد يمكن تقسيم تاريخ سورية بعد الاستقلال تقسيما خشنا إلى قسمين متساويين تقريبا، يمتد كل منها نحو ثلاثة عقود. ينتهي الطور الأول في وقت ما من أواسط السبعينات، لنقل عام 1976 الذي شهد التدخل السوري في لبنان ونصب النظام أسوار الدفاع عن سلطته لأول مرة خارج حدود سورية، ويغطي الثاني الفترة الممتدة حتى يومنا.

تميزت سورية خلال المرحلة الأولى عموما بحركية سياسية مفرطة، تشير على الأرجح إلى ضعف التشكل الوطني لسورية كدولة وهوية ودور إقليمي. فالكثير من السياسة الذي ميز سورية الفتية بعد استقلالها كان بالكاد يخفي القليل جدا من السياسي، أي المؤسسات والتقاليد السياسية المستقرة. وسيتظاهر الفائض السياسي غير المقيد هذا في انقلابات عسكرية متواترة وفي اضطراب الحياة السياسية السورية وعدم استقرارها. سيتظاهر أيضا في تنامي وزن العنصر الإيديولوجي والإرادي في تكوين المجتمع السياسي السوري، أحزابا ونخبا اجتماعية وحركات إيديولوجية سياسية، مقابل ضمور العنصر البرنامجي العملي.

بيد أن نشاط وحركية المجتمع السياسي السوري كانا تعويضا عن ضعف التشكل الوطني، وليسا مظهرا له فحسب. فقد أتاح حزبا نخبة الأعيان التقليدية، الحزب الوطني وحزب الشعب، والحزب الشيوعي والحزب القومي الاجتماعي وحزب البعث وتنظيم الإخوان المسلمين وتنظيمات أخرى أصغر وأقصر عمرا، للمجتمع السوري أطراً منظمة للتعارف والتواصل والخروج من بيئات محلية ضيقة كانت تخرج لتوها من انعزال وركود طويلين. كانت كذلك بمثابة تجارب استطلاعية على السياسة وإدارة الذات الوطنية. ووجودها بحد ذاتها ساعد السوريين على التآلف مع سوريتهم (على أنه ينبغي القول إن إيديولوجياتها كانت تغذي غربتهم حياله).

أظهرت النخبة التقليدية التي حكمت البلاد، على تقطع، بين الاستقلال عام 1946 والحكم البعثي عام 1963، عجزا بينا عن التصدي لملفين خطيرين: قضية الصراع الإقليمي والدولي على سورية، والمسألة الفلاحية. ومن هذين البابين دلفت الانقلابات العسكرية المتتالية. وكانت السنوات الأربع للحكم الديموقراطي البرلماني بين 1954 و1958 سنوات صعود بعثي وشيوعي، وعسكري. هذا الصعود خاطب شرائح طبقية وأهلية من المجتمع السوري كانت بقيت خارج الحياة الوطنية للبلد الفتي. الوحدة السورية المصرية المنكودة الحظ قطعت هذا المسار، وفرضت تنظيما تسلطيا ومركزيا غير مسبوق للحياة السياسية السورية (النظم الانقلابية السورية كانت هشة وعابرة على العموم). حين عادت طبقة الأعيان إلى الحكم عام 1961 أظهرت أنها منفصلة تماما عن الواقع وحاولت العودة إلى ما قبل الوحدة، لكنها سقطت نهائيا بعد عام ونصف العام.

قبل العهد البعثي وباستثناء فترة الوحدة عرفت سورية حياة سياسة ديموقراطية متقطعة، لكنها مقصورة على شرائح ضيقة، الريف خارجها عموما، وكذلك الطبقات الدنيا في المدن، وعموم الجماعات المذهبية الإسلامية غير السنية. في العهد البعثي عرفت البلاد «ديموقراطية اجتماعية» واسعة نسبيا في ظل تسلطية سياسية متفاقمة. هذا تناقض أول في عملية «بناء الأمة»، أو صنع الشعب وبناء الدولة. ويتمثل تناقض ثاني في أن العملية افتقرت إلى الوعي الذاتي المناسب (النقيض في المرحلة السابقة: حركية سياسية «ديموقراطية»، لكن أكثرية السكان خارج نطاق الحياة العامة). نخبة السلطة الجديدة وحدت السوريين بمقدار عبر سياساتها الاجتماعية، لكنها لم تع أبدا أنه تقوم ببناء أمة أو صنع شعب. كانت إيديولوجيتها السياسية قومية عربية، منجذبة إلى ما سماه عبد الله العروي «طوبى المجتمع العربي الاشتراكي الموحد». ومثل ذلك ينطبق على مجمل المجتمع السياسي السوري، الناصريين طبعا، وبدرجة ما الشيوعيين، فضلا عن الإخوان المسلمين والقوميين السوريين. وفي جميع الحالات، لم يكن ثمة في سورية أحزاب سورية!

بوعي غير مناسب وبإطار سياسي غير مناسب أيضا لم تلبث عملية تكون الأمة أن تعطلت. والواقع أننا نتحدث عن عملية «موضوعية»، أثر لوجود دولة وحقل سياسي محلي، ذلك أن التناقضين الكبيرين المشار لهما يحكمان على العملية برمتها بالتهافت ويجعلان مفهومها مجازيا تماما. لعل الأنسب لذلك أن نتحدث على تكون الأمة لا على بنائها.

بلى، توسع التعليم العام، لكنه كان يظهر ملامح تلقين عقيدي ضيق فوق تدني مستواه باطراد (اكتمل تبعيث التعليم، مناهج وكوادر، في أواسط السبعينات)؛ بلى أيضا، لم تعد ثمة حواجز طبقية في وجه الدخول إلى الجيش، لكنه غدا «جيشا عقائديا»، ولم يلبث أن عانى من «تطهيرات» واسعة على أسس غير مهنية، كان لها دور أكيد في كارثة حزيران 1967. أما المجتمع السياسي المفرط الحيوية فقد عانى التضييق منذ مستهل العهد البعثي (حجر على أعضاء النخبة السياسية التقليدية)، وانطلقت عملية تحطيم ما بقي منه في وقت بكر من حكم الرئيس حافظ الأسد، وبلغت ذروتها في نهاية العقد الأول من حكمه. كانت «الجبهة الوطنية التقدمية» تشكلت عام 1972 لتكون قفصا ذهبيا للأحزاب المشاركة فيها، بما فيها حزب البعث ذاته، ومن انشق عنها أو لم يدخلها سيدخل القفص الحديدي، أي السجون، خلال عقد الثمانينات بخاصة. ويصح القول إنه بالجبهة والسجن «تمأسس» تحطيم المجتمع السياسي السوري.

اصطلحنا حدا فاصلا خشنا بين مرحلتين من تكون الأمة السورية عام 1976. هنا، وعبر التدخل في لبنان ضد منظمة التحرير والقوى اليسارية اللبنانية، دخلت سورية «لعبة الأمم» الشرق أوسطية، فارتفعت فورا درجة استقلال نظامها عن المجتمع المحكوم، ما ترجم فورا أيضا بتشدد داخلي (اعتقال معارضين وإلغاء هوامش ثقافية شبه مستقلة) وتصاعد الكلام على مشكلة طائفية.

النقطة الأساسية التي نريد الوصول إليها هي أن «المجتمع السياسي» هو الحل الذي أتيح للمجتمع السوري الفتي والضعيف الاندماج لتجاوز انقساماته الأهلية، وهو تاليا وسيط لا غنى عنها للاندماج الوطني وتكون الشعب السوري، رغم أنه قد يكون متعبا للسلطات الحاكمة. تحطيمه يريح السلطات، لكنه يفقد المجتمع اطر تعارف وتفاعل عامة، فينكفئ على روابطه الأهلية، هذه التي لم تلبث أن أخذت تنتعش بعد خمول في الربع الأخير من القرن العشرين. لقد برز منذ مطلع العهد الأسدي الأول تعارض كبير بين حاجة النظام إلى حماية سلطته، ما يقتضي ضرب المنافسين والقضاء على المجتمع السياسي، وبين حاجة المجتمع إلى الاندماج، وهي تقتضي مجتمعا سياسيا مستقلا وفاعلا. حسم هذا التعارض لمصلحة حاجات السلطة، فكان أن دفعنا الثمن من جيب الاندماج الوطني. وينبغي أن يكون هذا مفهوما. فالمجتمع الممنوع من التشكل السياسي، سيتشكل في صيغ عضوية لا تستطيع السلطات القضاء عليها. وهي في الواقع لم ترد القضاء عليها أبدا. فقد وجدت أن التشكل العضوي أو الأهلي أنسب لتطلعها إلى حكم يدوم ولا ينتهي من تشكل سياسي وطني ذو مطامح عمومية حتما.

لقد كان ثمة مشكلات اجتماعية وطبقية في الزمن ما قبل البعثي، وبدا أن المجتمع السوري ينتظم مدنيا بصورة تحدّ من ظهور مشكلات طائفية وعشائرية (ألغى البرلمان السوري «قانون العشائر» عام 1956). وبينما ستعالج المشكلات الطبقية العهد البعثي، فإن تحطيم المجتمع السياسي سيبعث مشكلات عشائرية وطائفية.

بل إن معالجة المشكلات الطبقية ذاته سيتكشف وقتيا وعابرا. فقد أخذ يحل التناقض بين التسلطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية على حساب الأخيرة بدء من أواسط السبعينات. وبعد 13 سنة من تعايش «ديموقراطية اجتماعية» بصيغة شعبوية مع بقايا حراك سياسي مستقل، أخذتا تتلاشيان معا. وستنشأ طبقة أعيان جديدة في كنف النظام أشد ثراء من سابقتها وأشرس بما لا يقاس. والفكر القومي الذي شوش وعي عملية بناء الأمة سيصلح حجابا لعملية تفككها.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)