ما الذي نفعله عندما نتسلى ببقايا الحرب، فنرمي أنفسنا بالكلمات النائمة على ناصية الحدث، أو المستيقظة على نحيب أكرهه، ففي حزيران يمكن لنا أن نكتب ونبكي، ونستطيع أن نزني بالأحرف على شاكلة غير مسبوقة لأنه كسر أمامنا كل الخطوط الحمر المفروضة من التراث والثقافة، وجعل السياسة حكاية مملة نجترها ونعرف أننا سنتعب في لحظة من الكلام فنصمت أو نموت.

هو يمر ونحن مشاهدون ممتازون لكل ما تعرضه الفضائيات، بينما نعف عن القراءة لأنها تجعلنا ننعس أو نمل من التذكر أو خلق خيال لما حدث، فما جرى أصبح بعيدا وغابت ملامحه، أما من سقطوا فيمكن أن نمل من شواهد القبور التي بقيت وحيدة تحمل لفظ "الفاتحة".

قلنا "لا يساوم"... لكن الجرح الذي خلفه حزيران لم يساوم فقط بل أصبحت شرعيته من "المساومة" ومن "التسوية التي تقف وكأنها حشرجة في الحلق، فلا نخجل من الوجوه التي ارتحلت للمرة الثانية وضاعت في متاهات الأرض، فالحزن ربما لم يكن كافيا حتى عندما صفعنا في حزيران، فعدنا من جديد لرائحة التشرد وللرحيل من أرض لأخرى.

أحب حزيران لاني ابنته... ولأنه حملني معه في الهزيمة وطاف بي على مساحات مجهولة فعرفت أن "اللجوء" هوية نكتسبها بشرعية التسوية وبقرارات الأمم المتحدة التي حددت السلام على خارطة جسدي، فكتبت على مسامات جلدي أسماء الجنود الذين مروا، أو الذين قرروا التوقف لممارسة الاغتصاب، أو حتى المفكرين الذين "شرعنوا" الهزيمة، أو الساسة المبدعون في "كسر" الحاجز النفسي، فحولوا الوطن لعاهرة بحجم "حق العودة"، ثم رسموا وجودهم على خبرة القنص وملاحقة "العذارى" كي يضعوهن في "قرارات الرذيلة".

هو "حق لا يساوم" مهما حاولنا أن نهرب منه، أو تعايشنا مع قدرتنا على عرضه في سوق "النخاسة السياسية"، لكنه "لا يساوم" لأنه حياة مجتمع وهوية... هوية مطبوعة على الصدر وبين الثديين، تفاجئ أي منتهك بصورتها الجارحة، وتطبع خصبا من نوع فريد على أجيال لم تعرف تاريخ "النكسة" لكنها قادرة على عشق هذه الأرض، وعلى مضاجعة الحرية ليخرج منها "جني" لا يساوم.. لا يستطيع تحمل ألوان الزيف والقبح السياسي، ولا يتحمل البقاء على مساحة من اللاحرب بينما تلوح له التسوية كطيف يطارده في كل لحظة.

حزيران أكثر من الكلمات التي تكتب والأفلام الوثائقية التي تطاردنا في محطات التلفزة، فهو في النهاية ملامح المستقبل حتى بعد أكثر من ربع قرن، لأنه فتي بطبعه... ونازف بحكم وجوده... ومتمرد رغم كل أشكال الهزيمة... حزيران هو بالفعل حق لا يساوم....