رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يعود مرة ثانية إلى دمشق، وزيارته تأتي على إيقاع تكوين سياسي غير مألوف، فالاتهامات المتبادلة بين دمشق وبغداد لم تعد من الماضي ولكنها في نفس الوقت لا تملك أي دلالات سياسية مرتبطة بالعلاقات بين البلدين، أو حتى في طبيعة العلاقات الأمريكية - السورية التي على ما يبدو دخلت مباشرة إلى هذه الاتهامات في محاولة لتفكيكها.

بالطبع زيارة المالكي ليست بعيدة عن الحوار بين دمشق وواشنطن، لكن العلاقات السورية - العراقية لم تتأزم نتيجة الاحتلال فقط، فهي علاقة حساسة سارت بشكل دائم على إيقاع التوازن الإقليمي، ولم تأخذ مساحة مستقلة عن التجاذبات التي وسمت تاريخ البلدين منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، ولكن العلامة الفارقة في هذه العلاقة ظهرت خلال السنتين الماضيتين، حيث لم تؤثر الاتهامات من بعض الأطراف الأمريكية والعراقية أيضا على الشكل "التقني"، وبقيت الاتصالات تمتص "الأزمة"، فالاحتلال صاغ الملفات بين البلدين من جديد، ورسمها وفق خطين أساسيين:

 الأول هو ظهور امتداد سياسي عراقي داخل سوريا، وهذا الأمر كان موجودا سابقا عبر تشكيلات المعارضة بما فيها نوري المالكي الذي سكن في سورية لفترات طويلة، لكن الامتداد السابق يختلف نوعيا عن الحالي المزود بتواجد ديمغرافي قوي، إضافة لشرعيته فهو قادر على التنقل بين البلدين. هذا الامتداد السياسي يشكل قاعدة متبادلة بين الطرفين، وإذا كان البعض يتحدث عنه وكأنه "ورقة سورية" فإنه في نفس الوقت "ورقة عراقية" استخدمتها في الاتهامات قبل أكثر من عامين.

 الثاني يرتبط بملفات اللاجئين، فهم وبعد سنوات من الاحتلال شكلوا "شريانا بين العراق وسورية، ولم يعد الأمر مجرد تواجد مؤقت، إنما حركة على الحدود أصبحت مميزة علما أن الحدود بين البلدين سادها "السكون" لأكثر من عقدين.

القضايا بين البلدين لم تعد كما في السابق صراع على الأدوار الإقليمية، فهناك عوامل إضافية تحكم هذا الموضوع، وفي وقت لم تعد فيه إيران عدوا للعراق وصديقا لسورية، بل لاعبا أساسيا في مسألة الاستقرار العراقي، ولم تعد تركية أيضا دولة معنية بمراقبة حدودها مع إقليم كردستان العراق، بل هي أيضا شريك في كل الملفات العراقية والإقليمية، وهذا الظرف الجديد يرسم ملامح إستراتيجية لعراق ما بعد الاحتلال، هذا إذا استطاعت دول المنطقة تثبيت واقع سياسي مختلف.

ولكن مهما اختلفت الظروف فإن دمشق وبغداد يتداخلان اليوم في مساحة من أزمة الشرق الأوسط لا يمكن تغافلها، أو تركها لظروف الحوار مع الولايات المتحدة أو حتى لإستراتيجية الرئيس الأمريكي في العراق، فما يحدث الآن يمكنه أن يغير من مسار العلاقات بين البلدين وينقلها لصيغة تخرج عن إطارها النمطي القديم.