ربما نشهد اليوم سيناريو مكرر لكل المحاولات التي تسعى لإعادة رسم "العمق الاستراتيجي" ما بين سورية والعراق، فالاتفاقيات بين البلدين ودون أي استثناء تنتهي بشكل درامتيكي، ليطفو على السطح "خلافا" حادا يعكس "علاقة مستحيلة"، بقيت عالقة على امتداد التاريخ المعاصر للدولتين.
عمليا فإن الاضطراب السياسي هو العنوان الذي يحكم ما حدث بين بغداد ودمشق، والامر ليس خلافا سياسيا بالمعنى العميق للكلمة، بل "تماس" بين الدولتين في عدة قضايا، وربما حاولت حكومتي البلدين إتباع تكتيك في الحفاظ على بعض المصالح بينهما عبر ترسيخ "علاقات تقنية" مرتبطة بالاقتصاد أو بالأمور الإدارية، لكن التناقض الداخلي العراقي غالبا ما يجعل الطريق بين دمشق وبغداد محكومة بالقطيعة.
وما حدث قبل سحب السفير العراقي من دمشق ربما لم يكن مفاجئا بالنسبة لبعض المراقبين، لأن الحديث عن العلاقات السورية - العراقية مرتبط أساسا بالتكوين الإقليمي للشرق الأوسط، وليس فقط بإرادة الدولتين في تطوير التعاون بينهما، لأنهما متواجدتان على حدود كتل تاريخية كبرى (تركيا وإيران)، إضافة لارتباط العلاقة بينهما بالتوازن الإقليمي مع "إسرائيل".
هذه تبدو اليوم أكثر تعقيدا بسبب واقع الاحتلال الأمريكي للعراق، والتماس المباشر بين الدولتين يمر عبر نقاط سياسية تحكمها علاقة الولايات المتحدة مع دمشق، فتدهور العلاقات هو مؤشر أيضا على أمرين:
الأول أن الاتفاق مع الحكومة العراقية سيبقى خاضعا للتقلبات طالما أن الاحتلال قادر على التأثير ليس فقط عبر الوضع الأمني، بل أيضا من خلال التكوين السياسي المركب، وظهور مصالح متباينة داخل الدولة العراقية نفسها، فالكتل السياسية غالبا ما تقوم بخلق توازنات لنفسها مع دول الجوار وذلك بغض النظر عن سياسة الحكومة أو حتى مصلحة الدولة.
الثاني طبيعة التحولات على المستوى الإقليمي وتأثيرها على مصالح عدد من دول المنطقة، فالحديث عن "التحالف الرباعي" يشكل بحد ذاته تحديا يدفع الكثيرين للتخوف من إمكانية ظهور قوة إقليمية، رغم ان الحديث عن مثل هذا الحلف كان بالأساس موجها لدعم العراق في مرحلة الانسحاب الأمريكي، أي لمواجهة الحديث عن "سد الفراغ" في المرحلة التي تصبح فيها استحقاقات الدولة العراقية على المحك، لكن البعض ربما يفهم منه رغبة الدول الثلاث: سورية وتركيا وإيران، في سد الفراغ داخل العراق!!!!
بالطبع فإن مسألة "التحالف الرباعي" هي مجرد صورة للمستقبل وليست مشروعا إقليميا، رغم أن مثل هذا الأمر طرح سابقا، وربما علينا تذكر حلف بغداد في خمسينيات القرن الماضي، لكن التحالف المطروح حاليا مختلفا في وظائفه لأنه على عكس المشاريع السابقة لم يطرح من قبل القوى الدولية، بل هو خرج من المنطقة ويصب في المنطقة.
مشكلة سورية والعراق ربما تبدو تاريخية، لكنها تنتمي إلى الزمن الحالي، وهي في النهاية انعكاس لتشتيت المساحة الإستراتيجية التي يمكن بها مواجهة استحقاقات المستقبل المرتبطة بـ"التسوية" أو حتى برسم شرق أوسط قادر على استيعاب أزماته.