لم تكن السياسة وحدها مفاجأة داخل ما حدث في العلاقات السورية - العراقية، فالأخبار الثقيلة والتصريحات التي توازي "التدمير الشامل" كانت تطفو على سطح راكد، فمن سيتحدث سيكون مغامرا يدخل في المجهول، أما من تحرك وزار دمشق وبغداد فهو "قلق" وربما مرتاب من الاصفرار الذي بدأ ينسحب على المنطقة من جديد.
ما يهمني في كل السياسة هو "الملاحظة".. أو تتبع المشهد الدرامي الذي يتكون، فنراقب فيلما صامتا بالأبيض والأسود لـ"نظام عربي" لم يملك حتى "التعليق"، رغم ان التعليقات هي سمة الأفلام الصامتة، وحتى الموضوع أو الفكرة خرجت عن مسارها الخاص، فالمشهد العراقي يقابله مساحة من النشاط الدولي باتجاه الولايات المتحدة أو حتى "إسرائيل"، وينتهي التاريخ بعد لحظات من التصريحات لتبدأ جولة من الأسى العربي ربما يذكرنا بمعركة "مرج دايق".
ربما الفارق الوحيد أن الهزيمة اليوم لها طبيعة شخصية تلتصق بالجميع، بينما كانت مرج دابق معركة حقيقية على "هزالتها"، وكان "العثمانيون" غير مسلحين بدبلوماسية نشطة ورغبة في رسم تكوين شرق أوسطي قادر على استيعاب أزماته... لا يهمني العثمانيين في مرج دابق ولا حتى المماليك الذين انتهوا من التاريخ بعد هذه الواقعة، فالصورة الأساسية هي قدرة الناس على الانسحاب من التاريخ، وربما قدرتنا على تجنب الاحتكاك او التورط، وهي صورة ليست جديدة لكنها تصفعنا كلما طفت على سطح الحدث أو التاريخ او حتى المستقبل.
دون صوت يعيش الجميع، فحتى جموع العراقيين الموجودين في سورية هم في النهاية يقفون على مساحة الأزمة، وهم أيضا متقلبون على شاكلة السياسة التي تظهر وتغيب ما بين سورية والعراق، وبالفعل ربما علينا أن نهنأ من استطاع تعميم الديمقراطية بأحدث أشكالها، فسلح النظام العربي بـ"حق العزلة" وقدم للمجتمعات "حق السفر" لخارج أوطانهم، ومنحنا لأول مرة شكل من الاختلاط في المفاهيم والمسميات لم نكن نعرف انها موجودة.
هي أزمة ليست سياسية.. هي أزمة مكتوبة على مساحة الجنون التي ظهرت مع قدرتنا على كتابة التعاون على شاكلة الصراع الدولي، وعلى مساحة العواطف التي تغتالنا كل يوم، فعندما كانت الحرب لم يكن أمامنا سوى خيار واحد: اللجوء واستيعاب اللاجئين... دون أن تصبح السياسة جدلا يخطف الجميع ويوزع الأدوار ويكتب صورة رمادية لمستقبل من الصمت الذي لا ينتهي.