لم يعد الأمن الإقليمي بين تركيا وسورية يقف عند حدود "اتفاقية أضنة" التي وقع قبل عقد تقريبا، فهناك تصور استراتيجي جديد يحكمهما وسط أزمات متلاحقة تداهم الشرق الأوسط عموما، لكن تأسيس مجلس للتعاون الاستراتيجي ربما يقود المنطقة إلى كسر القواعد التقليدية التي ظهرت منذ انهيار الدولة العثمانية، وبقدر التحول الذي شهدته تركية في نظرتها لمحيطها، فإن سورية أيضا ربما تقدم رؤية لمفاهيمها السياسية وسط أزمة واضحة داخل النظام العربي، فعندما نتحدث عن فشل مشاريع لـ"الشرق الأوسط الجديد"، فإننا في نفس الوقت لا نستطيع إنكار أن النظرة السياسية ربما انزاحت باتجاه جديد رغم عدم قدرة الإدارة الأمريكية السابقة على تحقيق مشروعها.

عمليا فإن العلاقة بين أنقرة ودمشق هي بداية للأسئلة حول الشكل الذي يمكن أن تظهر فيه المنطقة، فالاستقطاب الذي ظهر إعلاميا ما بين "الاعتدال" و "الممانعة" لم يعد قياسا حقيقيا لرسم جغرافية الشرق الأوسط، وعمليات التحكم بالأزمات التي تم حصرها سابقا بعواصم محددة باتت مهددة اليوم بدخول العامل التركي، وذلك بعد ان دخل العامل الإيراني بفعل احتلال العراق، وهذا الاختلاط في الأوراق أعاد رسم التوازن الإقليمي، فلا التقارب الأمريكي مع سورية أبعد دمشق عن طهران، ولا عمليات الحوار مع سورية فتحت أفاقا داخل النظام العربي كي يعيد حساباته، وهذه المؤشرات تبين أن الجناح الشرقي للعالم العربي يرسم ملامحه على مساحة جديدة، وأن الجرأة التركية - السورية في خلق تعاون بينهما، ربما يفوق التعاون مع عدد من الدول العربية، ويشكل تجربة لا تملك في التاريخ المعاصر ما يشابهها.

لكن العملية السياسية تحمل معها أيضا اعتبارات جديدة، على الأخص أن هذا الاتفاق قوبل بحذر واضح من قبل النظام العربي بالدرجة الأولى، ويكفي قراءة التحليلات السياسية التي ظهرت في الصحف العربية، لنعرف أنه فتح أمام المنطقة أسئلة ترتبط أساسا بأمرين:

الأول هو تشتيت مراكز صنع القرار العربي، فسورية أدخلت تركية "شريكا" في عملية التسوية، وهو شأن يعني من حيث الحالة الرمزية أن المبادرة العربية على سبيل المثال، رغم مواتها، لم تعد محكومة باعتبارات خاصة ومرتبطة بقدرة بعض العواصم على التحرك، لأن هناك تحرك سياسي على مستوى آخر قادر على الأقل على جعل "التسوية" ضمن إطار جديد.

الثاني الخوف العربي، وربما الدولي، من ظهور استقطاب جديد، رغم أن الدولتين تضعان علاقتهما ضمن توازن خاص إقليمي ودولي، إلا أن الزمات في المنطقة هي ما تدفع العديد من الأطراف على النظر بحذر إلى ما يحدث.

لن تبقى هذه الأسئلة معلقة كثيرا، فالاتفاقات السورية - التركية ستدعم بلا شك الأمن الإقليمي لكنها في نفس الوقت ستفتح أكثر من جبهة أمام دولتين نتيجة قدرتهما على كسر القواعد التقليدية التي حكمت الشرق الأوسط لأكثر من نصف قرن.