حتى ولو بدا تقرير غولدستون بعيدا عن الموضوع التركي، لكن الجدل الذي دار حوله يفتح مساحات جديدة في أزمات الشرق الأوسط، التي على ما يبدو انتقلت من منطقة الصراع باتجاه "خيارات مترددة"، تربطها بعض السياسات بإجراءات مطلوبة أو بالعودة إلى "التسوية" أو حتى بالتوافق القديم للمثلث السوري - السعودي - المصري، لكن العودة إلى تقرير غولدستون والتصويت لصالحه يكشف أن الأزمة ربما تكون في "إسرائيل" نفسها التي تقف أيضا على عتبة "الخيارات المترددة" رغم كل ما أبدته سابقا من "إفراط" في استخدام العنف والإرهاب والجرائم بحق الفلسطينيين.
وعلى عكس كل المراحل السابقة لتاريخ الصراع فإن الواقع السياسي يقدم عجزا حتى بالنسبة للولايات المتحدة، فالشرق الأوسط والصراع مع "إسرائيل" لم يعد قائما على الخارطة القديمة، وهو ما يجعل من تركيا بوابة أحيانا لإعادة رسم "الجبهات" مع "إسرائيل"، لكن هذا التفكير يضعنا أمام مسألتين:
الأولى مرتبطة بالمصالح التركية في مسألة الصراع، فسياسة أنقرة ترتسم منذ بداية القرن الحالي على قاعدة "فرض التوازن داخل الأزمات"، وهي عبرت عن هذا الأمر بعلاقات وصلت إلى التطبيع مع أرمينيا رغم الإرث الثقيل في هذا الموضوع، وفي نفس السياق فإن دورها في الصراع مع "إسرائيل" يلامس مصالحها في فرض التوازن الذي يتيح لها النفاذ إلى جميع الأطراف.
هذه المعادلة التي ترسمها تركيا اليوم ربما تقود إلى تضارب لمصالحها مع "إسرائيل" لأن "الدولة العبرية" قائمة على "الاختلال" السياسي في الشرق الأوسط وليس على التوازن، وهو ما سيجعل السياسة التركية أكثر التصاقا مع سورية وربما إيران، لكن عملية "فرض التوازن" لن تقود بالضرورة إلى تكوين جبهة ضد "إسرائيل" بل تحمل ممكنات هامة لتحسين الشرط العربي هذا في حال استطاع النظام العربي تجاوز أزماته.
الثانية مرتبطة بالعراق، لأنه بالنسبة لتركية يشكل مساحة اختبار لسياستها الإقليمية، فهي تتلاقى مع سورية في الخط الاستراتيجي تجاه العراق من حيث "وحدته وسلامة أراضيه"، ومن البوابة العراقية تنفذ أنقرة تجاه الى باقي الأزمات بما فيها الصراع مع "إسرائيل"، على الأخص أن "فرض التوازن" يتطلب وحدة العراق بينما "الاختلال" الذي تسعى إليه "الحكومة الإسرائيلية" يبقى إن لم يكن مع تقسيم العراق فعلى الأقل مع إبقاء الصراعات داخله.
إن تقرير غولدستون كشف مساحة الأزمات التي يعاني منها الجميع، بما فيها "تركيا"، حيث يبقى التحول التركي العميق باتجاه "الشرق" و "الجنوب" محاطا بالخيارات المترددة المقتصرة حتى اللحظة على تكريس عدد من الإجراءات السياسية، فهي ربما تحتاج لانفتاح آخر من الجانب العربي حتى تخرج من نطاق التردد باتجاه رسم جديد للمنطقة.