لا أستطيع أن أفرح للمظاهر الاحتفالية بعد 20 عاما على سقوط جدران برلين، فما حدث كان العودة للشكل الطبيعي، وهو يذهلني اليوم كما أدهشني رغم أنني كنت حسب التعبيرات الإنشائية "يافعة"، فالقلق أن الجدار الذي فتح من جديد نافذة على أحلام البعض بقي محصورا في مساحته الضيقة، واستمرت "خيالات" كسر الأحلام مستمرة، فكيف أغفر لتوحيد برلين بينما تتخشب أناملي أمام الحواجز الكثيرة، والبطاقات الثبوتية التي أعجز عن إبرازها داخل أروقة المدينة القديمة، وفي أزقة القدس التي لم تعد سوى صورة لقبعات تذكرنا بأزمنة العزلة....

في برلين كان الفرح مبررا، وكان كسر الحواجز انتصارا، وفي القدس دون البحث عن الهوية الدينية التي يعشق البعض استخدامها، تتحول هوية المدينة إلى مرحلة ما قبل العصور الوسطى، وإلى البحث عن فتاوى لقتل حتى "الرضع" لخلق "توازن الرعب" الذي على ما يبدو أنه من مخلفات الروايات التي سبقت المسيح، وربما سبقت أيضا كل أشكال "الميثولوجيا" التي أنتجتها البشرية.

ربما كان باستطاعة قادة من العالم الاحتفال بإنجازهم الذي يتبدد بشكل غريب كلما ابتعدنا عن المناسبة، وكلما فكرنا أن هناك من يريد توقف التاريخ عند لحظة واحدة سواء في القدس أو بيت لحم، أو حتى في أفغانستان، فـ"الإمارة الظلامية" لا تظهر في جنوب فلسطين، بل هي في مجال آخر من القدس وباتجاه حيفا، وفي الحديث الذي تجدد عن دولة يهودية خالصة، وعن قدس لم تعد سوى "غيتو" يكبر مُذكرا العالم بأن الحضارة تذبل سريعا أمام التطرف، وأمام القدرة على الغرور وإحلال الغيب على الأرض والتعامل مع "الاحتلال" كحق بالدفاع عن النفس.

ما يجري في القدس ليس تهويدا بالمعنى الديني، لأنه إضافة لذلك "استعادة تراثية" من طرف واحد، وقدرة على الانقياد وراء "المرويات" التي لن تكون فقط مجرد تمدد في أحياء المدينة القديمة، دون ان ننسى القدس ككل، لأن ما يحدث يشكل ملامح التطرف القادم، وصورة لانتقال "العزلة الثقافية" باتجاه مناطق التنوع التي مازالت تقاوم للحفاظ على طيف لوني يميزها، وهو أيضا تأسيس جديد لـ"القتل" المشرعن بفتاوى تمر وكأنها نوع طبيعي داخل ثقافات إنسانية تحارب التطرف في أفغانستان وباكستان.

بعد سقوط جدار برلين لم تسقط الأسوار التي تتيح لنا أن نجابه التطرف، أو منح شحنة حب لمدننا التي تحولت أمام العالم إلى تجمعات بشرية، ولم نستطع أيضا أن نعلق أضواء جديدة على جغرافيتنا المهدورة بفعل "الرؤية" الماضوية، فـ"الغيتو" الذي يكبر أمامنا لن ينهار فقط بفعل "سقوط جدار برلين".... بل بقدرتنا على حب التنوع الذي يميزنا في مواجهة اللون الواحد الذي ينتشر في القدس وغيرها.