"مسودة" قانون الأحوال الشخصية بنسخها المعدلة والمقترحة، تكشف المساحة الثقافية الخاصة بنا، وتدفعنا للاعتراف بان التيارات العلمانية أخطأت حساباتها خلال العقود الخمسة الماضية. هذا الخطأ يظهر اليوم على الأقل في تكرار الجدل بشأن "مسودة" ، وبنوعية الردود "الفردية" بدلا من التعامل المؤسساتي من قبل تيارات كاملة محسوبة على العلمانية وعلى "فصل الدين عن الدولة".

هذا الواقع لا يدفع إلى الامتعاض أو السرور، فما نقوله هو إقرار بأمر حدث بعد الطفرة التي اجتاحت المجتمع في أواسط الخمسينات، وفتحت آفاقا واسعة أمام كافة التيارات الاجتماعية. وربما علينا عدم التردد في إقرار مسألتين:

 الأولى أن ظهور التيارات العلمانية ترافق بانتشار حركة التعليم الواسع والنشاط الحزبي منذ الاستقلال. لكن هذا الظهور لم يكن على حساب العامل الثقافي الأساسي للمجتمع (أي الدين). فالسمة التي ميزت تلك المرحلة هي ظهور النخب السياسية والثقافية التي حكمت الحياة الاجتماعية. لكن العوامل الثقافية الأساسية لم تتبدل بشكل جذري، على الأخص أن التيارات الجديدة انغمست في عمليات سياسية كبرى. بينما كانت التيارات التراثية تكرس السلوك المألوف للناس.

 الثاني هو النظرة التي تعاملت معها التيارات الجديدة مع العوامل التراثية وقوتها في المجتمع، معتبرة انه يمكن القفز فوقها بفعل عمليات "التحديث" والتعليم، فالتحرر الاجتماعي لم ينطلق خارج الثقافة الاجتماعية بل استمر داخلها ليعيد إنتاج هذه الثقافة بأدوات جديدة.

أهملت التيارات الجديدة واقع العامل الثقافي في المجتمع، وتجاهلت أهمية التعامل معه بشكل جدي. وبغض النظر عن طبيعة التعامل في تلك الفترة، لكن من المهم القول أن كل مجموعة كانت تحاول بناء نظرتها بشكل مستقل.

التردد الذي انتاب النخب السياسية والثقافية في الخمسينات يجب أن لا ينسحب على الزمن الحالي. وخصوصا في ظل "صراع فكري" لم تعد عوامله إقليمية، كما ان المحيط الجغرافي لا يقدم نماذج مشجعة في مجال الحداثة عموما وليس العلمانية فقط، فتبديل العوامل الثقافية هو استحقاق لم تعد مواجهته ممكنه في ظل افتراض أننا أنجزنا المهام السابقة، وأن مسألة الهوية يمكن تغييبها حتى ننجز عملية "التحديث" للتشريعات أو حتى لأنظمتنا الاقتصادية، فالهوية في النهاية ستحدد توجهنا نحو المستقبل أو الماضي، وصورتها داخل تفكيرنا هي التي ستقدم لنا أشكال الحلول الممكنة.

كان متوقعا للعامل التراثي أن يعود في أي لحظة .. ومن المتوقع ان يتطور خلال السنوات القادمة .. وما يمكن فعله اليوم هو الحرص على عدم بقاء هذا العامل أسير صيغته الذاتية، بل لا بد من التعامل بجدية ومحاولة إيجاد "الانتقال المعرفي" الذي يخرج عن حدود التراث و ينتج لنا القيم والتشريعات و "مسودات" لقانون الأحوال الشخصية كمواطنين يجمعهم الانتماء الوطني ولا شئ سواه .