ملامحك لن يخفيها الغبار المتصاعد في الأفق، فأنت أكثر وضوحا وربما إشراقا، وأنت الفارس في الخيال أو الأمل، وأنت صورة من الماضي وبريق في الحاضر وربما إيقاع المستقبل الذي يظهر مع الجدار الذي ينخفض أسفل قدمي... ولأول مرة هناك من يعزلني عنك من تحت قدمي....
إنه سؤال صعب لا يمكنني الدخول إليه بشكل سريع، فأنت من الشمال والجنوب والشرق والغرب. ألمح برقك مع ساعات المساء والعتمة التي تهبط على سطح البحر، وأستطيع أن أعرف كل تفاصيلك رغم الحزام الذي يضيق على مساحتي، ففي غزة كل شي ممكن، وفيها أستطيع اجتراح المعجزات، وتسجيل أرقام قياسية في محبتي للآخرين، وفي التسرب إليهم مثل النمل من تحت الأنفاق التي أصبحت مشكلة أمام من يهوى الضغينة، أو من يريد منعي من رؤية من حولي، فيعاند الجغرافية أو يقاتل التاريخ، ثم يحاول أن يصبح طاغية المستقبل.
في غزة هناك سماء أرتفع بها، وأعرف أن الطائرات قادرة على اقتناصي، لكنها في النهاية لن تستطيع خنق الرؤية، فأغادر ولو بأحلامي إلى الأرض التي اقتطعوها، أو اقتطعت منها، ثم أحاول الإبحار ولو ببصري باتجاه الأفق الممتد على شريط ساحلي لا تعكره القوارب بل الرغبات المسمومة بجعله جدارا آخر.
إنها حدود غزة المرسومة بأيادي الآخرين، والمكتوبة في مؤتمرات "دول المانحين"، وهي الخطوط التي لا نراها لكنها تريد وضعي بعيدا عن الجميع، وتكوين الغربة فوق ملامح وجهي ثم تشويه جسدي كي يصبح من سلحفاة تعيش طويلا ولكنها محكومة بمنزلها الخاص.. أما أنا فأحلم بالجميع وبمنازلهم التي يمكن أن تستضيفني متى أردت، لأن فيها من أحب وأعشق، ومن كتبتهم وكتبوني وجعلونا رمزا إضافيا في حياتهم.
هي غزة التي يمكن أن يمتد الفولاذ فيها نحو الأسفل، وترتفع أبراج المراقبة إلى الأعلى، وهي التي تضم احتراق السياسة ورماد الزيف العالق على ألسنة نجوم الفضائيات، وهي التي تعرف أن حياتها ليست مجرد أنفاق للغذاء، بل رغبة دفينة في معانقة الناس من حولها، أو من بقوا واقفين في لحظة المأساة يصرخون من العجز، فهؤلاء حتى ولو لم يستطيعوا العبور إلينا، أو إلي، فهم يسلحونني بالقدرة على المحبة رغم جدران الكراهية، ويقدمون لي على طبق الصدق الذي يكلل وجوههم أمل اللقاء بهم لأنهم الزاد الذي أفكر به دوما.....
لا يهم إن منع الجدار الغذاء أو الدواء... لأن أملي أن ألتقيكم دائما.....مهما علا الجدار