المعادلة بين أنقرة ودمشق مركية ولا يمكن وضع نموذج بسيط لها، فما سيحدث على يومين من توقيع لاتفاقيات من خلال اجتماعات المجلس الاستراتيجي للبلدين لا يشكل فقط دعما للعلاقة السورية - التركية، لأنه أيضا يسير وفق حسابات إقليمية أيضا، إضافة لتفاصيل السياسة الداخلية لكل منهما.

عمليا وفي العنوان العريض هناك إجراءات هامة لكن قراءة انعكاساتها المستقبلية ليست سهلة، فالتعاون الاقتصادي وفق الشكل الذي يحدث اليوم سيؤدي في النهاية إلى "خارطة" مختلفة كليا عما كان سائدا طوال نصف قرن من الزمن، وفي المقابل فإن الأزمات المتشابكة بين سورية وتركيا ستختلف أيضا وستأخذ أبعادا جديدة، فنحن نتحدث عن تداخل ديموغرافي على طول الحدود الشمالية، وفي المقابل عن توزيع للأدوار الإقليمية أيضا وعلى الأخص في العراق لمرحلة ما بعد الانسحاب، وأخيرا فإننا ننظر إلى تركيا ببعد أوروبي ودولي من خلال وجودها في الحلف الناتو إضافة لرغبتنا في الدخول لمنطقة الاتحاد الأوروبي.

على الجانب السوري فإن أكثر الأبعاد وضوحا هو السياسي، لأن تركية الآن ليست حليفا استراتيجيا بالمعنى التقليدي، بل هي دولة إقليمية "تعويضية" نتيجة انكشاف النظام العربي استراتيجيا، والتعامل معها كوسيط للسلام من جهة وكحليف داخل الأدوار الإقليمية لم يكن واردا في تسعينيات القرن الماضي ليس بسبب الخلافات مع انقرة بشأن المياه أو حزب العمال الكردستاني أو حتى وجود أحزاب في السلطة تملك ميولا غربية، بل لأن النظام العربي إجمالا كان مغلقا بما كان يسمى المثلث السوري - السعودي - المصري، وعملية "الإغلاق" حافظت على التوازن الإقليمي رغم الحصار المفروض على العراق والتواجد العسكري الأمريكي الكثيف في منطقة الخليج، كما حافظ على بنيته رغم عدم قدرته على تحريك محور الصراع الأساسي مع "إسرائيل"، إلا أنه في نفس الوقت استطاع تأمين حدود الاستقرار مع تحولات النظام العالمي.

الدخول التركي لم يكن فقط رغبة من أنقرة في توسيع دائرة علاقاتها، فهو وإن كان توسيعا في خياراتها لكنه أيضا انعكاس في تحويل دائرة الشرق الأوسط باتجاه قوى إقليمية بدلا من العربية، وهو جاء مبكرا بعد احتلال العراق الذي أوضح أن توازن القوى في المنطقة لم يعد ممكنا على الساحة العربية، وأن بعض الخيارات العربية بقيت مغلقة رغم دخول الشرق الأوسط في مرحلة مختلفة نوعيا نتيجة احتلال العراق، لكن تركية أيضا تحافظ على توازن خياراتها، وهو ما يجعل من البعد العربي الغائب خلالا لا يمكن تعويضه حتى ولو بدت الأمور تسير باتجاه الأفضل، فسورية وتركية يقومان بعمل يسعى لتبديل مفهوم العلاقات الإقليمية بينما تستمر العلاقات العربية قائمة على تنافس باتجاه الأزمات، وهو أمر سيشكل أرباكا في المستقبل لسورية على الأقل، وربما سيجعل من الشرق الأوسط مساحة "مختلطة" يصعب فيها الوصول لحلول نهائية لمجمل الأزمات.

تركية وسعت خياراتها بتوازي مع ما قامت به دمشق منذ احتلال العراق، لكن الأمر يحتاج بالفعل إلى مساحة عربية إضافية وليس إلى تكوين محاور جديدة تتوافق مع الوضع الدولي، فخطوة أنقرة ودمشق في عمقها هي إيجاد مسار إقليمي ربما لا يتناقض مع "رغبات الكبار" لكنه يريد رسم أفق خاص، وهذا الأمر مازال يحتاج إلى ترتيبات ربما تتجاوز الدولتين باتجاه عربي أوسع.