مقاربة تبدو ضرورية في مسألة التحرك الأمريكي للسلام، فهي ليست المرة الأولى التي تصبح فيها التسوية عنوانا لتحرك الإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، فمستشار الأمن القومي الأمريكي ووزير خارجيتها في إدارة نيكسون هنري كيسنجر قام بجولات مكوكية انتهت لتوقيع اتفاقيات، وربما إلى رسم خارطة ما بين العرب و "إسرائيل" ماتزال قائمة حتى الآن، ووزير الخارجية جيمس بيكر في إدارة الرئيس جورج بوش الأب بذل أيضا جهدا تكلل بعد حرب تحرير الكويت من خلال انعقاد مؤتمر مدريد، ويأتي ميتشل اليوم ليحمل ملفات التسوية من جديد لكنه في نفس الوقت لا يملك المعطيات التي امتلكها باقي الدبلوماسيين الأمريكيين الذين طافوا المنطقة.

كان هنري كيسنجر لا يعمل وفق ما تم التعارف عليه باسم "عملية السلام"، فالهدف الأساسي كان تجميد الجبهات والوصول لاتفاقيات تمهيدا لانعقاد مؤتمر حنيف الذي بقي حدثا عابرا، بينما تكرس الاتفاقيات وبعضها تطور، فظهرت "كامب ديفيد" كأول اتفاقية سلام بين جانب عربي و "إسرائيل"، لكن "عملية السلام" بكل ما تعنيه من آليات مستمرة لم تبدأ بالظهور إلا في مرحلة مؤتمر مدريد مستفيدة من ظرفين: الأول: عربي بعد أزمة خانقة نتيجة الحرب في الكويت، والثاني متعلق بإستراتيجية "إسرائيلية" جديدة تعاملت مع "التسوية" كجزء من "شرق أوسط جديد"، وسارت "العملية" بغض النظر عن المواقف المتباينة منها، ورغم أن توقفها أو انهيارها لم يكن معطى عربيا، لكن النظام العربي طرح مبادرة سلام في أسوء ظرف بالنسبة للتسوية ككل.

المفارقة الأساسية أن ميتشل يسير اليوم دون أن يمتلك أي "مادة" يمكن أن تستند إليها الانطلاقة الجديدة للتسوية، بل ربما على العكس فإنها تريد الاستمرار من حيث توقفت العمليات السابقة، علما أن كل المعطيات التي تراكمت منذ مؤتمر مدريد انتهت كليا بفعل العمليات العسكرية للاحتلال، أو نتيجة التحول السياسي على الساحتين العربية والفلسطينية، فميتشل يتحرك اليوم وهو يحمل معه دعما مكونا من عاملين:

مسألة الحصار على غزة التي تريد ضمان "حياد" حركة حماس أو أي فعل مقاوم في حال التوصل إلى اتفاقيات أولية.

تحرك خليجي وسعودي تحديدا لتهيئة ظروف جديدة من أجل أي "مناورات سلام" قادمة.

لكنه في المقابل لا يمتلك أي جغرافية للتسوية، فالمسألة ليست في "التشدد الإسرائيلي"، أو حتى في القدرة على شل حماس سياسيا، لأن الوضع الإقليمي لم يعد كسابق عهده يوم انطلقت عملية التسوية، فهناك "شركاء جدد" إقليميين، وهناك أيضا شركاء دوليين غادروا أو أصبح تأثيرهم معنويا، وحتى في الميزان العربي فإن "التسوية" لم تعد تملك نفس المفاهيم السابقة، وهي أيضا ليست خروجا من مأزق استراتيجي بعد تحرير الكويت، بل ربما على العكس فهي تشكل أكبر التحديات للخروج من أزمة جديدة كرست انقسامات كثيرة، فما الذي يفعله ميتشل؟

المبعوث الأمريكي سيواصل عملية "التجميد" الحالية، وربما فتح قنوات إضافية للحوار، وربما يتطرق لزوايا إضافية داعمة للهدوء في المنطقة، لكن الأكيد أن ظرف التسوية لن يشكل عاملا مساعدا بالنسبة له.