التطرق لمسألة الحياة السياسية أمر مركب لأبعد الحدود، فبقدر كونه شأنا متعلقا بكل دولة لكنه أيضا مرتبط بالأداء السياسي العام وسط أزمات حادة، فالحياة السياسية لا يمكن فصلها عن نوعية القرارات أو التوصيات التي تخرج أحيانا من دولة أو حتى من القمم العربية.

عمليا فإننا نرسم الإطار لهذه الحياة ضمن تشكيل واحد هو "الحريات العامة"، فنضعها في خانة الإجراء السياسي أو الأشكال المرتبطة بالسلطة، ومع أهمية هذا الأمر لكن مسألة "التفكير" و "المؤسسات الحزبية" هي العمق الحقيقي لمسألة الإجراء السياسي، ويحاول البعض عند الحديث عن "الليبرالية" أو "اللبرتارية" تجاوز أجيال كاملة من المفكرين والمنظرين الذين قدموا المادة الحية للمجتمع والمؤسسات كي تتبنى مثل هذا التفكير، وفي المقابل فإن أحزابنا التي نشأت غاليا من "أسس فكرية" اكتفت بمجموعات من "الأفكار" أو حتى المبادئ دون جهد واضح في تقديم تأسيس نظري يساعد الجميع على التفاعل مع الحراك السياسي بكافة مستوياته.

وفي موقع آخر فإننا نقف أحيانا أمام حقائق واضحة في غلبة الفكر التراثي على الحداثة، أو حتى على المفاهيم التي تحدد القومية والعلمانية، دون ان ننظر إلى الكم الثقافي الذي يستند إليه التراث، وإلى أنواع العلوم التي أسسها كـ"غطاء" مازال يمنحه المرجعية التي تجعله فاعل في المجتمع.

أحزابنا وعلى الأخص تلك التي تدعي امتلاكها لفكر فلسفي ، لا تملك ولا حتى على مستوى الأفراد تجارب أو محاولات تأسيس نظري لما تواجهه من أحداث، بل ربما على العكس فإن الشكل السلس يغريها للاعتماد على "الموقف السياسي" الذي يبدو في زخم حركة الحياة نوعا من الكتابة على الهواء.

منذ احتلال العراق شهدنا جملة من الأحداث التي أرادت تبديل الموقع الجيوستراتيجي لكل دولة في الشرق الأوسط، وحدثت بالفعل تحركات عنيفة أوجدت واقعا أكثر تناقضا مع تطلعات الأحزاب الموجودة سواء كانت عروبية أو "سورية قومية" أو "يسارية"، كما حدث هذا التناقض مع التيارات الاجتماعية العلمانية على وجه الخصوص التي وجدت التشكيلات الدينية تأخذ زمام المبادرة، وتخلق نموذجها المقاوم سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، ولكنها في النهاية لم تجد أنها تعيش أزمة أو مأزق، وربما لم تتحرك لرسم ملامح فكرية قادرة على اختراق هذه الأزمة، هذا على افتراض أنها قامت بعمليات التفكير والحفر المعرفي خلال العقود الماضية.

عندما كان انطون سعادة يكتب جملته الشهيرة في مقدمة كتبه "المجتمع معرفة والمعرفة قوة" كان يضع جدلية إنتاج المعرفة في موقعها الصحيح، لكن النصوص ربما تبقى للتاريخ والإنتاج المعرفي هو الذي يحكم فيما إذا استطاعت الأحزاب خلق غطاء فكري دائم لها، أم انها اكتفت بترديد ما تعلمته منذ أكثر من نصف قرن، ثم تخرج إلى العلن لتبحث عن الحياة السياسية!!!!