للخروج عن المألوف يمكن أن نبدأ من المساحات الفارغة التي يحوم حولها الفعل السياسي، فعندما تبدأ الشعارات والبيانات ندرك أننا لا نملك أي تفكير جدي في حياتنا القادمة، ونعرف أيضا أن فكرة "الأحزاب" لا تبدأ بقرار أو موقف بل بالمعرفة التي تضعنا أمام رؤية لأنفسنا وللآخرين قبل أن نختار موقعنا داخل الخارطة....

هناك من يختار "النصوص" أو يجد نفسه في ملامح الشخصيات، أو حتى يقتنع بموقعه داخل "بيان ختامي"، ثم يخرج منتصرا وربما "مُعززا" بأن وجوده مستمر منذ اللحظة "التاريخية" الذي ظهر فيها حزب ما إلى الوجود، وربما لا يدرك أن جيلا من المفكرين سبق تأسيس أي حزب، وأن أجيالا حولت الأحزاب إلى هياكل أو أجهزة قادرة على "الحركة" في المكان، وعلى إقناع الآخرين بأن "الأعمال العظيمة تحتاج إلى زمن"، ولكن هل يمكن رؤية الزمن بنفس الصورة التي ظهرت عليها عام 1932، أو حتى وفق شكل آخر يقودنا إلى عام 1949؟ وهل الزمن سيبقى وفق التعريفات القديمة وقبل أن يصبح بعدا رابعا غير من كل الأسس التي قام عليها العالم؟

وفي الأحزاب أيضا تجارب مقتبسة من "الفطرة" بمعناها الذي يفخر به رجال التراث، لأنها تقود نحو الصواب إذا عزلنا المكونات الاجتماعية، فالمسألة هي مجرد "حراك اجتماعي" ينتقل من ساحة إلى أخرى، لكنه في النهاية يبقى بلا ذاكرة لأنه حراك لم يستطع أن يكون فكره، بينما تجمد مشروعه في زمن "التأسيس"، وفي مقالات تظهر في كل عام عن "الشهادة"، أو حتى في أعلام ترفرف وكأنها خلاصة الكون او بداية التفرقة.

ربما غادرنا الزمن الذي كانت فيها الأحزاب مؤسسات لتنظيم جهود الأفراد، فبعد التجارب القاسية على امتداد منطقتنا فإننا سنجد تعريفات كثيرة لـ"هياكل" لم تعد قادرة على تقديم حافز للتفكير، أو خلق مصلحة يمكن أن تجمع الإرادة فيبدأ المجتمع الجديد.

أكثر من سبعة عقود تفصلنا عن بعض الأحزاب التي تأسست مُشكلة حالة "فارقة"، أو تحول في رؤية "النخب" التي استقبلت القرن الماضي بتحد فكري، لكن هذا التحدي أصبح جدلية في نقاشات أشخاص يتنقلون بين المقاهي أو "المكاتب" أو حتى في صفحات الجرائد التي انتهى زمنها، ويجعلوننا ندرك حجم المأساة التي جعلت السياسة دون فكر، وقدمت القومية بمبادئ فلسفية ثم نسيت أن تحفر وتفكك وسط مرور الزمن بعمق هذه الفلسفة التي على ما يبدو تظهر اليوم وكأنها شاهد تاريخي!!!!