رغم أن "المنطقة العازلة" مصطلح مرتبط بمرحلة ما بعد الحروب، لكنه أيضا يشكل حالة سياسية يمكن رؤيتها في الرسم الشرق أوسطي، وذلك بغض النظر عن المشاريع السياسية المختلفة التي مرت عليه، فإنشاء مساحة عازلة هو شان وظيفي في السياسة وليس فقط مجرد جغرافية تمنع التماس، وعندما بدأت "المسألة القومية" بالظهور كان هناك شرق أوسط يحوي على الأقل "منطقة عازلة" في شبه الجزيرة العربية استطاعت أن تجعل من هذا المشروع شأنا بعيدا عنها، لكن المسألة ليست في هذا الموضوع فقط، فحتى اليوم يتم تناول قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية وفق نفس المنطق، حيث تبدو المناطق العازلة وكأنها بعيدة عن هذه المسائل، او غير معنية بالدخول في السياق العام للمنطقة.

الجغرافية العازلة تتكون باستمرار وفق الحالة السياسية المتجاوبة معها أو المتطورة وفق ظاهرة مختلفة تماما عن السياق التاريخي للمنطقة، فنحن هنا لا نتحدث فقط على دول ظهرت في القرن الماضي، بل أيضا عن نماذج سياسية مختلفة كليا عن المحيط العام، لأنها قادرة على الاستجابة السريعة للمستجدات الخطرة في كثير من الأحيان، وهي أيضا قادرة على تقديم الحلول بشكل محايد، لأنها أساسا "معزولة" عن نوعية المشاكل التي تتطور رغم أنها تمارس دورا سياسيا فيها، لكنه دور يُفترض أن لا ينعكس عليها بشكل مباشر.

في التجارب السياسية المتأخرة ظهرت أهمية "العزل" الجغرافية، لأنها شكلت خطوط صراع جديدة، وهو أمر يمكن أن يؤثر حتى على التفكير السياسي المستقبلي، فعندما نتحدث عن المملكة العربية السعودية أو الكويت أو حتى الإمارات العربية المتحدة، فإننا سنواجه تحديات ولو على المستوى النظري تحمل "نسق صراع" مختلف يجعلها قادرة ليس فقط على المهادنة مع أطراف الصراع العربي - الإسرائيلي، بل أيضا للتعامل معها بشكل متوازي، فإذا كان صحيحا أن دول الخليج العربي لم تقم علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل"، لكنها في المقابل كانت في خط مختلف تماما عما يحدث داخل الأزمة الأولى في الشرق أوسط، وبعد نصف قرن فإن مشكلتها الظاهرة هي في خلافها الجوهري حول الإستراتيجية الخاصة بدول المحور.

عمليا فإن ما حدث سابقا لم يعد ممكنا اليوم، فابتكار مبادرات سلام تنطلق من دول الخليج أصبح أمرا مستبعدا في ظل "صراع" جديد تم تكوينه داخل هذه "الجغرافية العازلة"، فمسألة إيران ليست فقط في تحديد الأدوار الإقليمية داخل الخليج، بل أيضا في تكريس "العزل" داخل الأدوار الإقليمية ذاتها، فالمعالجة تجاه طهران تتم وكأنها لن تؤثر في التوازن الإقليمي عموما، أو ان ملفها النووي مرتبط فقط بتضخم دورها، وهو ضخم بالأساس، وليس بإعادة توزيع الشرق الأوسط من جديد.

هناك انتقال حتى على مستوى التفكير عندما نصل إلى "المناطق العازلة" وكأنها مكان عليه ان يبقى موازيا لأي تطور يحدث على مستوى الصراع العربي - الإسرائيلي، ولكنه في نفس الوقت يشكل "صراعه" الخاص الذي يعزل قضايا المنطقة بشكل عام.