أحملها وأمضي، وأتعثر في بقايا الصور التي تشكلت من بوح الذاكرة أو ربما من الجهات الأربع التي تحدد المدينة بإطار جغرافي، لكن "العمران" لا يقف عند الحد الذي نتخيله، ففي الأحياء أكثر من المباني، وفيها ارتجاف الطيف البشري الخاص، وفيها أغاني العشق التي رسمت المدن خيالا، وفيها أيضا بضعة أشعار وروايات بقيت كصور متنقلة ما بين جيل وآخر، فهي المدينة التي نرتسم على شاكلتها أو تكتبنا من جديد داخل المستقبل لأطفال لا نمل ضجيجهم، أو نفكر في المساحات التي يشغلونها مستقبلا....

كل المدن يلخصها الأطفال والعشاق، بينما يبقى الحدث تاريخا يقرؤوه البعض أو يستذكره كي يجيب على امتحان التاريخ في المدارس، فهل التاريخ بعيد عن العشق؟ وهل علينا أن نشاهد الهدوء في المساحات التي حولنا ثم نحمل خيبة الحب والطهارة ونمضي بعيدا؟ فعندما نفكر في "الجغرافية التي تحاصرنا ندرك كم نحن قادرون على الهروب من عمق المدينة، ومن القصص المختبئة خلف الجدران والتي تبحث عن منفذ لها، وحتى من القادمين إليها يبحثون عن ملامح جديدة فيغرقون أو يطمرونها في عقولهم وكأنها لحظة عابرة.

مدينة أو نسمة مرت على الوجه ورسمت "أناقة" مختلفة عن كل ما يمكن أن نفكر به، أو حتى جعلتنا ندرك أنها ستبقى بشبقها أكثر من عمارات نسكنها وطرق نسفح عليها شعورنا وقدرتنا على الصبر وسط ضجيجها، فهي ليست دمشق أو بيروت او القاهرة، وهي أيضا ليست الوجوه الثلاثة لبغداد التي كتبها غالب هالسا ثم رحل لينتهي في دمشق، لأنها حزمة من الأفكار التي تعصف بنا عندما نشاهد جدارا يوقف أبصارنا عن رؤية ما وراء الأفق، فنسعى لكسر الحد بين المدينة والحب الذي يجتاحنا، ونعيد تكوين الشكل الذي أردناه لها، فيظهر خليط بشري يمتد من القلب نحو المسافات القريبة، ففي المدينة لا يمكن أن نتوقف لحظة، وعلينا أن نسير دون أن ننظر خلفنا، وفي لحظات الإرهاق نعرف أننا لن نصل أبدا إلى النقطة التي أردناها.

لماذا علينا إعادة رسم المدينة كل يوم، ووضع خارطة خاصة بنا تجعلنا نعرف كل التحركات الممكنة، ولماذا لم تكن دمشق مثار الدهشة لوجوهنا؟ ولماذا أيضا نحفظ عن ظهر قلب كل المسارات التي تجعلنا جسدا متنقلا؟ ولماذا نميز "أوراق النعي" والملصقات الأخرى ولا ننتبه للوجوه التي تمر سريعا، أو للفرح الموجود في عناق كفين يتباطئان وكأنهما غير معنيين بكل الفوضى التي تحيط بهما؟

أسئلة المدينة لا تنتهي، وهي صورتنا وليست مجال لحياتنا، فعندما نتحرر من دمشق فإنها تتحرر منا وتصبح قادرة على تقديم جمالها دون أن تكون الخيبات عنوانا، أو العشوائيات مادة درامية يتسلى بها المخرجون، ففي المدينة وجه واحد ربما نعجز عن رؤيته من موقعنا الحالي.