لم يكن انتقال النظام العربي إلى مرحلة التسوية مع "إسرائيل" أمرا عاديا، فإعادة موقع "إسرائيل" داخل خارطة المنطقة هي منذ البداية مواجهة "الحيوية" داخل هذا الصراع، حيث أوضحت الحروب أن مسألة الهزيمة أو الربح لم تكن عاملا حاسما، حتى ولو كانت قاسية جدا كما حدث عام 1967، أو مقترنة باستهداف المدنيين كغاية كما حصل عام 2006 عندما أرادت "إسرائيل" استخدام المواطنين كأداة ضغط على حزب الله أو حتى في غزة ما بين عامي 2008 و 2009، فحيوية الصراع كانت تتطلب تحولا ثقافيا جذريا يعيد تكوين العدو بالنسبة للمجتمعات العربية بشكل عام.

ما حدث على امتداد سنوات الصراع لم يكن يحمل مفهوما واضحا للتسوية، لأنها كمصطلح ظهرت بشكل سريع، وكان وجودها منذ البداية مقترنا بالقرارات الدولية، وهي ظهرت أيضا في ظل توازن قلق للقوى في المنطقة، لذلك فإن استرجاع الحقوق بقي "المعيار" الاستراتيجي ليس على مستوى النظام العربي فقط، بل أيضا لسياسات الدول الشرق أوسطية بالدرجة الأولى، وكان أيضا، وربما ما يزال، العامل الحاسم في دفع قوى جديدة إلى سطح المعادلة الإقليمية، سواء كانت دولا مثل إيران وتركية أو تيارات كحزب الله وحركة حماس أو حركة فتح في ستينيات القرن الماضي.

عمليا فإن مرحلة الانتقال الأساسية في تغيير المعايير الإستراتيجية بالنسبة للصراع حدثت بعد حرب تشرين، وبغض النظر عن النتائج العسكرية لهذه الحرب، لكنها رسمت "طوقا" جديدا داخل منطقة الصراع عبر التضخم السريع لدور الدول النفطية في مسار المنطقة، فالصراع على المستوى الرسمي أصبح خاضعا لشرط جديد، وبات واضحا أن الحديث عن الاستقرار في المنطقة ينطلق من دول الخليج بدلا من ان ينطلق من خطوط التماس التي كانت مسرحا لعمليات عسكرية إسرائيلية واسعة.

لكن التدخل الجديد في عملية الصراع لم يحدث التحول المطلوب رغم أنه حاصر "حيوية الصراع"، وكان واضحا أن هناك ثلاث أمور أساسية داخل "الشرط الجديد" الذي فرضته مسألة "الأمن الخليجي":

الأول عدم دخول "النظام العربي" في صراع مباشر مع "إسرائيل"، فدخول أي دولة عربية في مثل هذه الحرب كان يمثل مخاطرة كبرى بالنسبة لها كونها غير محمية بغطاء عربي معنوي على الأقل، أما بالنسبة للنظام العربي فإن أي حرب ربما تعدل من ميزان القوى ومن الأدوار الخاصة بالدول النفطية، وبالتحديد من دورها السياسي، والملاحظ هنا أن هذا الدور أصبح نافذا في كل الصراعات الإقليمية، لكنه محدود جدا في مسألة الصراع مع إسرائيل، فهو لا يمارس الضغط في الوقت الذي يقدم فيه مبادرات.

الثاني إعادة رسم العدو كعنصر توازن في المنطقة، فهو عدو قابل للتفاوض بينما لا يمكن "مفاوضة أطراف أخرى"، وهذه التجربة كانت واضحة جدا بعد احتلال العراق، وعلى الأخص مع الأطراف التي مارست "المقاومة"، كما تمت ممارسة هذا الشكل في أزمتي العراق الأولى والثانية، عند احتلال الكويت وقبل الاحتلال الأمريكي للعراق، فـ"إسرائيل" في المعيار الاستراتيجي الجديد تبدو كشرط أساسي للتوازن الإقليمي، وذلك بغض النظر عن مسألة الحقوق الخاصة بالجانب العربي.

الثالث عوامل الضبط والسيطرة الخاصة بالأمن الإقليمي خضعت بكاملها لمعيار وحيد غير متفق عليه داخل النظام العربي، فمسألة الإرهاب بدأت تشمل أطرافا عربية يتم استبعادها دائما من الخارطة السياسية الخاصة بالنظام العربي، رغم أن الاتصالات فيها متواصلة، لكن الغرض الأساسي هو عدم إكسابها الشرعية داخل هذا النظام.

وربما علينا فهم القرار الأخير للجنة الوزارية لمتابعة المبادرة العربية وفق الشرط الجديد الذي دخل بعد آخر حرب مباشرة مع إسرائيل"، فالمبادرة ذاتها التي يعتبرها الكثيرون "ميتة" لكنها في الواقع تشكل الحد السياسي المسموح به عربيا في مسألة الصراع مع العدو، فهي "المعيار الجديد" الذي يضمن في النهاية ضبط أي تحول على مستوى الجغرافية السياسية للشرق الأوسط، بحيث تبدو شروط المبادرة مطبقة داخل النظام العربي، فتتيح المساحات السياسية اللازمة لمسار التسوية، وفي المقابل فإنها ترفع أي غطاء سياسي عن "المقاومة" أو حتى أي مشروع سياسي آخر، وربما تكون غايتها النهائية هي عدم السماح لحيوية الصراع كي ينتقل لخارج جغرافيته.