يمكن أن تكون مصادفة، لكن "القادة العرب" وصلواإلى سرت دون الضوء الخاص بأحداث القمة، فغزة ولو لساعات سرقت كل "الاحتفالات" التي أرادتها ليبيا، ورسمت ملامح لنظامين قائمين وليس فقط لمؤسسة تحتكر العمل العربي، وبالطبع فإن ليبيا تملك الحق في استقبال القادة على طريقتها، وهي أيضا تتفتح عهدا مختلفا عن "عملية" التصالح مع العالم، وفي المقابل فإن مباشرة العمل السياسي كانت مختلفة عن المشهد الذي رسمته غزة، فهناك توازنات كان لا بد لها من أن تظهر في سرت عشية أعمال القمة، يقابلها نوع من الكسر على "مفصل" الجغرافية السياسية للعالم العربي في غزة.
والحدث لم يكن بضخامة الحروب التي تشعلها عادة "إسرائيل" لأنه توغل فقط واشتباكات وانفجار عبوة ناسفة، لكن هذه المصطلحات ترسم نفسها أو قاموسها السياسي في مواجهة "المصالحات" و "تنقية الأجواء" وسياسية "المبادرات المفتوحة" التي لا تملك زمنا أو جغرافية فهي ممتدة وفق سياق عربي بطيء، فاختصار المشهد إلى "ممانعة" و "اعتدال" كان فاشلا، لأن ما يحدث عمليا لا يشكل فرز معسكرين، وما حدث منذ قمة الكويت الاقتصادية وما تبعها من هدوء في العلاقات العربية يوضح أن المسألة أعقد من التعامل معها وفق منطق الفرز الكلاسيكي الذي ظهر مع بداية تبلور "الشرق الأوسط" كدول أو حتى "مسارات" سياسية تحاول أن تحفر أدوارا لها داخل "مجتمعات تاريخية".
في قمة سرت الحالية لا يوجد "محاور" بالمعنى الذي تناوله الإعلام خلال السنوات الخمس الماضية، لكن هذا الأمر لا يعني التوصل إلى "إستراتيجية" أو حتى "استراتيجيات" تخص النظام العربي، فوظيفة "النظام العربي" هي إعادة تكوين نفسه وفق الشروط التي تحيط به، وهو أيضا نقطة استيعاب لأي حدث آخر يتداخل مع مساحة أزماته كما يحدث في غزة.
وأهمية غزة هنا هي في فرادة جغرافيتها كأصغر بقعة متبقية وقادرة على تقديم لحن نشاز حتى في أثناء القمة العربية، وهذا اللحن لا يبلغ مداه الأعظمي إلا عندما تختار "إسرائيل" فرض رسالتها من خلال غزة، وذلك عبر عمل واع بأن ما يحدث لا يؤثر على توازن "النظام العربي لكنه يطرق أسماعه ويرسم له قلقا خاص، وهذا ما حدث في حرب 2008 - 2009، وهو يحدث اليوم بشكل مختلف لأن أي معركة هي محاولة لتغيير المسار السياسي والخروج من الأزمة الخاصة بحكومة نتينياهو، ولكن في المقابل أيضا رسم مشهد مختلف أمام القمة العربية التي تحمل معها كل "الهدوء" الذي يريده البعض، فالقمة لن تفكر كثيرا في غزة وربما تحمل معها نوعا من البلاغة العربية في مواجهة الاستيطان، إلا أن المشهد سيبقى مطابقا لوظيفة النظام العربي في استيعاب الأزمات أو حتى إعادة إنتاجها.
المشهد في غزة يرسم مصطلحات مختلفة على الأقل على مستوى حياة الناس، وفي سرت أيضا هناك حالة من "مراجعة" القاموس العربي الذي على ما يبدو فاضت صفحاته لكن الجميع يستطيع تذكره عن ظهر قلب.