"إسرائيل" تريد دائما المواجهة، وربما نسينا أن أدبيات نصف قرن كانت تتحدث عن ان بقاءها مستمر بالحرب أو "المواجهة"، فهل هذه الأدبيات أصبحت خلف ظهورنا مع خيار "السلام"؟ أما أننا بقينا نصف قرن نقرأ وندرس ثم نصل إلى استنتاجات خاطئة؟ وهل كان الخطاب العاطفي فورة دم استمرت طوال تلك العقود ثم بردت او بردنا أو انتهينا إلى مساحة خاصة من "العزلة" عن الوجود؟
هي أسئلة موجهة أساسا للخطاب السياسي العربي عموما، وهو نفس الخطاب الذي استطاع التحول مع كل مفكريه من أقصى اليمين إلى ذروة اليسار كي يقدم "فلسفة" في السلام أو الواقعية أو البحث عن مخرج "تاريخي" لوجود "إسرائيل"، وهو الخطاب الذي كان قادرا على التنحي في لحظات الهزيمة وكأن المسألة هي مجرد إعادة تنظير أو استنتاج، لكن المشكلة أمام الفكر السياسي وما يقدمه من تنظيمات أو آليات أنه لا يملك سلطة على الماضي، فهو غير قادر على إعادة التاريخ بل الاستسلام للحاضر، وهو يقف أمام مسألة "الترحيل" التي بقيت مطروحة على امتداد "حياة إسرائيل"، وكأنها فكرة جاءت من المجهول أو تم اختراعها لتتناسب مع تفكير وزير الخارجية الإسرائيلي.
لكن "إسرائيل" تجر الجميع إلى المواجهة، وإذا لم تندلع الحرب فهي الرابحة، أما إذا اندلعت فإن حسابات جديدة وعلى الأخص بالنسبة للنظام العربي ربما ستظهر من جديد، لكن المسألة ليست معارك عسكرية بل هي معرفة أن الواقع الحالي هو "مواجهة"، وأن "الشرق الأوسط" بصورته الحالية تم تركيبه على أساس هذه المواجهة، فالرافضون لصورته القديمة والحالية عليهم أن يواجهوا، ومن يسعى إلى بقائه على شكله الحالي يعرفون أنهم أيضا أمام مواجهات مستمرة، بينما يظهر الخطاب "الهادئ" كنوع من الترف على "هوامش" القرارات الإسرائيلية، أو أشكال التحدي التي تبتدعها "إسرائيل" دوريا لتغذية "رموز وجودها" المعاصر.
مسألة "الترحيل" تشكل نفسها كخطاب سياسي "إسرائيلي" وليس فقط كحق تريد دولة العدو استخدامه في أي لحظة، فهذا القرار هو حصيلة "خطاب المواجهة" الذي يحرك "المسار الإسرائيلي" داخل الشرق الأوسط، ويعيد تكوين "الديموغرافية" بشكل دائم راسما على خطوط تقلبها أشكالا من الحروب التي تكتب مصطلحات اللاجئين والنازحين والتوطين وحق العودة ككلمات منتهية من قاموسها، وعلى النظام العربي استيعابها وإعادة إنتاج نفسه وفق سياق جديد منسجم مع قدرته على استخدام التسوية بأشكال مختلفة.
"الترحيل" الذي برز مجددا على مساحة "المواجهة" لا يحتاج إلى تحرك من النظام العربي الذي استقر على مبادرات وآليات من الصعب كسرها لأنها تشكل جوهر قيامه وربما استمراره، فـ"المواجهة" هي مع "إسرائيل" وليس مع قراراتها، وهذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا إذا استطعنا التخلص من الخطاب الذي ساد خلال عقدين تقريبا، وهو أمر لا يمكن أن يحدث إلا إذا بدأنا ندرك أننا لن نستطيع تأجيل المواجهة.