أتعلق فوق مساحة كلمات لم تعد قادرة على الظهور، او البوح بهمسات تعيد للروح ألقها، فعلى الحواجز يمكن أن نقف أو نصلي ونبتهل، وعلى الأوراق المنسية أقرأ وعليها أيضا أرسم الخارطة التي تاهت أمام العيون المنكسرة، فالترحيل أو الترحال أو الرحيل هي كلمات يمكن أن تصبح ملحمة درامية أو مادة سياسية لكنها ستقف عند حدود الروح، وتجعل الخطوات أسرع نحو منافذ العبور.... ففلسطين هي صورتنا التي نبقى فيها أو نصبح ذكرى.

لا أعرف لماذا تتعثر اللغة؟! ربما من تكرارا الحروف أو التصاقها على الجلد وكأنها أصداف توحي بأننا من التاريخ، أو من الماضي، ولا أعرف كيف يصبح البحث عن الأرض أسطورة يمكن أن تكررها الأجيال ثم تحفظ فوق تراكم "الميثولوجيا" التي صاغت على ما يبدو تفكيرنا، ففي فلسطين بدأنا وربما لا نريد الانتهاء أو التوقف، وفي فلسطين زخم المدن الذي يجعل الترحيل صورة قاتمة للعالم وليس لنا كبشر يُستنزفون على الحواجز، فإذا ما تعثرت اللغة فلأننا نجهل أن "الترحيل" لم يكن تراثا، وأن اللجوء أو النزوح أو العودة هي حالة لم نكن نعرفها أو أنها لم تنتقل معنا من جيل إلى جيل.

غربة بكساء من حرير.... وغطاء تلفحنا به بعد أن ولدت الصحراء ثروتها، فأصبح خصب الأرض على الهامش، أو تحولت فلسطين لغمامة تعكر صفو مجالس الرخاء الممتدة جنوبا، فتشتعل غزة أو تنطفئ لكنها نقطة واحدة لا يمكنها أن تنتهي بلحظة، وتكتمل رام الله واللد والخليل وكأنها أسماء لا بد منها في زمن البحث عن أرض مختلفة، فلا نجد إلا فلسطين ولا نرى إلا كنيسة القيامة، أو تلوح القدس لنا كفردوس مفقود ووحيد... فردوس لنا وربما للعالم، وجنة فيها اكتمال البحث عن الورود وربما عن الحقيقية....

إنه غرور "الترحيل"... غرور بأرض لنا تلخص البشرية على الأقل داخل عقولنا، وغرور أيضا بالقدرة على الحياة رغم كل المسافات التي يضعونها فلا نرى حيفا أو تصبح يافا وعكا من أسطورة إضافية كي لا نغفر أو لا نبتعد، فذاكرتنا مهما بدت مشتتة لكنها عصية على التفكيك، وعصية أيضا على الاحتفاظ بكل المفردات التي تساقطت بعد أي حرب جديدة.

ترحيل فقط للكلام الذي يقف مخذولا أمام القرارات الدولية، أو يرى "التطهير العرقي" مشروعا سياسيا لإنهاء الخصم، فهو ترحيل من التفكير الذي يعتقد أن الأرض تنفصل عن الجسد، أو أن المجتمعات يمكن أن تصبح مجرد رقم يمكن التعامل معه بقرارات سريعة، ففي فلسطين تبدأ المسألة وفيها تتكسر المدونات والمرويات لأن مساحة المستقبل لا تحتمل "فصلا" جديدا من تاريخ التطرف ومن "ابرتهايد" سيصبح مادة لدرس تاريخ يقرؤه الأطفال في فلسطين عن أجداد لم يكن يواجههم أمام "الترحيل" سوى البقاء.