يمكن للسياسة أن تنتظر، وهي قادرة على الصبر تماما كما يستطيع رجالها غمرنا بالابتسامات، وباللعب على مساحات فارغة من "المبادرة العربية" إلى "الرابطة الإقليمية"، لكن لحظة الصدق تظهر دائما في حالات الخروج من الزمن المغلق... الزمن المليء بالمناسبات والمزروع في "المؤتمرات" وورشات العمل، أو بالصحافة التي تنتظر مناسبة كي تعيد كلامها الذي قالته قبل نصف قرن، فمسألة "الجلاء" كانت وستكون وربما ستصبح مناسبة أكثر من احتفالية، لأنها بالفعل ستقدم لنا دعوة للحظات ينتهي بها "البريستيج".. وينتهي التفكير المحصور داخل آنية التصريحات، فهناك أفق كان علينا أن نعيشه، فنصبح "أسياد قدرنا" حتى ولو ملأنا هذا القدر بكم هائل من الزيف الثقافي أو من حالات الرغبة في العودة إلى قدر سابق.
لحظات الصدق فيها "الحلم" كما كان يظهر، أو كما هو عليه "الآن"، ففيه غطاء رمادي يتحرك وكأننا شريط من الأحداث، أو مستعدون على تقبل حالات البحث عن منفذ لذاتنا دون أن نرى أنفسنا في الواقع، وهو حلم أيضا كان فيه "كبرياء" التعامل مع ألوان جديدة وربما تفكير يقودنا لحدائق البنفسج حتى ولو اضطررنا للسهر عليها أو للتمتع بها زمنا يحاكي عمر البنفسج.
هو أمر ليس شاعريا لكنه ينقل صورة الصدق التي يمكن أن تدخل إلينا في لحظة واحدة هي ليست من التاريخ، لأن مسألة الجلاء شأن يستمر، على الأخص أننا في عصر تبدو فيه الجيوش موجودة في كل لحظة، وجاهزة كي تمارس فعلا عكسيا في العراق أو فلسطين أو في مجال آخر ينعدم فيه الأفق، فالصدق يأتي مرة في الزمن الذي تعصف فيه حالة "التشتيت" وإمكانية "التحول" إلى "الصحراء" والاسترخاء على مضارب يمكن أن نتركها في اليوم التالي لنبحث عن واحات جديدة، فلحظة الصدق تكسر فكرة "الواحات" والترحال، وهي الثمن الذي ندفعه لأننا نريد أن نعيش كما نرغب وليس كما يرغب الآخرون سواء عاصرناهم أو سبقونا لرسم التاريخ والتراث.
لحظة صدق واحدة يتحول "الجلاء" إلى خيارات مفتوحة... وينتقل من المهرجانات التي سبقته أو ستأتي بعده إلى تفكير يحمل إمكانية التسرب لأجيال قادرة على "الاختيار"... أجيال لم تعرف أن عالمها مقسم بين الاعتدال والممانعة، ولم تتعلم أن مقاومة الإيدز تكون بـ"العفة"، وأجيال لا تعرف الانسجام مع الواقع لأنها تريد أن ترسم عالمها دون مقدمات أو "مناسبات" أو حفلات تعارف أو مجالس رجال أعمال، هي أجيال تملك الخيار الذي ندافع عنه منذ الاستقلال رغم مظاهر الزيف التي تحيط بعالمنا.