تحرك "العلمانيون" في بيروت دون أن يفكروا بـ"مؤتمرات" أو حلقات حوار، فهم "يعترضون" على تقلص مساحتهم، أو وضعهم الحقوقي الذي يضيع عالميا وليس فقط في حدود الشرق الأوسط الذي لم يشكل يوما نشاطا علمانيا على المستوى الاجتماعي، والتظاهرة التي شهدتها بيروت أمس ربما لن تشكل فارقا على مستوى الحياة السياسية، فكل من يتحرك له أسبابه وربما بعيدا عن الأحزاب العلمانية التي انكفأت وتحورت وأعادت رسم نفسها بفكر علماني ونشاط اجتماعي قادر على التعايش مع الأسوأ.

"العلمانيون" القدامى منشغلون بالتنظير، أو بمراقبة ما يحدث في تركيا من تحول من دولة علمانية إلى أخرى محكومة بحزب إسلامي في جوهره هو نتاج لسنوات طويلة من القوانين التي أبعدت الدين عن السياسة، تلك القوانين التي ذهبت إلى حالة متطرفة فعادت الأحزاب الدينية على قاعدة عريضة رغم ان "العلمانيين الأتراك" مازالوا موجودين بقوة ولكن على قاعدة "قومية" أكثر من كونها علمانية.

الشأن اللافت في مسيرة بيروت أمس أنها أعادتنا إلى نقطة "المصلحة" في مسألة العلمانية، فالموضوع لا يتعلق بمواجهة التيار التراثي، بل حركة الحياة أو العودة إلى البحث في حرية اختيار الأفراد، وفي قدرتهم على التحرك بعيدا عن الرؤية المسبقة أو المرجعيات التي ترسم أدق التفاصيل في حياتهم اليومية، فالمسألة العلمانية ليست مذهبا إيديولوجيا يمكن فرضه على شاكلة ما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق، بل هي تيار يملك أي شخص حرية الدخول إليه أو الخروج منه دون ان يشكل عبئا على المجتمع، وفي نفس الوقت دون ان يحرم أصحابه من القدرة على الاختيار، فالقضية تبدو مركبة لأنها تمس العلاقات داخل المجتمع وقدرتها على الارتقاء كي تلبي احتياجات الأفراد.

بعض الأحزاب تنبهت إلى مجموعة التطورات التي يمكن أن تقود إليها مسألة الابتعاد عن العلمانية، وعلى الأخص فيما يتعلق بمسألة "الوحدة الوطنية"، لكن الشعار السياسي ربما لم ينتقل إلى نقطة التوصل نحو اختراق المصالح الاجتماعية، فإذا كان صحيحا أن "الكوارث السياسية" ظهرت من خلال الانقسام الحاصل على قواعد مذهبية، فإن الدخول إلى المصالح ربما لا يتم إلا عبر البحث في ضرورة تحقيق مصالح الأفراد التي كانت واضحة أمس في مسيرة بيروت.

"العلمانية قادرة على تجاوز محيطها الضيق عندما لا تبقى معلقة على مساحة الفكر فقط، فتنطلق من "النخب" باتجاه الحياة وتفاصيلها، وتصبح وظيفة "النخب" البحث عن آليات أفضل في ظل تراكم تراث لا علماني أو واقع دولي يفرض في كثير من الأحيان حالات انقسام، فمسيرة بيروت تحررت عمليا من "الوهم" الذي يقدم "رقما" كي يدلل على حجم التيار، وربما المطلوب اليوم هو الدخول إلى "الكتلة العلمانية" شرق أوسطيا لتلبية مصالح اجتماعية بالدرجة الأولى.