يمكن فهم الموقف الأمريكي من جديد وفق معطيات تختلف كليا عما كانت إدارة بوش تسعى إليه، فالعقوبات ضد سورية اليوم لها أغراض جديدة وليس فقط "نوعية السلوك" السوري الذي تراه الإدارتان، السابقة والحالية، وغير متوافق مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وفي نفس الوقت من الصعب التفكير أن دمشق وواشنطن عاجزتان عن خلق تفاهم بينهما، فطبيعة العلاقة منذ عودتها عام 1974 كانت محكومة بهذا "التشنج" نتيجة العوامل السياسية في المنطقة، فهل كانت مرحلة جورج دبليو بوش نقطة مرجعية أصبح من الصعب العدول عنها حتى مع تغير بعض من آليات السياسة الأمريكية؟
لا شك أن الولايات المتحدة بدستورها تحد من صلاحيات الرئيس الذي يرجع دائما إلى مجلسي الشيوخ والنواب، فنوايا الرئيس الأميركي باراك أوباما ربما تصطدم بإرادات سياسية مختلفة، لكن هذا التفسير للسياسة الأمريكية ينصب على وضع هالة الملائكة على الرئيس الأمريكي، وفي عمق ما يحدث اليوم هو صعوبة تحديد ما الذي تريده الولايات المتحدة من سورية، وليس فقط مسألة البحث فما تريده الإدارة الحالية أو جماعات الضغط داخل مجلسي النواب والشيوخ، وهو ما يجعل البحث أكثر تعقيدا من مجرد البحث عن طبيعة الأشخاص داخل الإدارة الأمريكية.
مرحلة الرئيس السابق كانت بالفعل نقطة استناد يصعب التحرر منها في أي مرحلة أمريكية قادمة، وهو أمر يرتبط بنوعية قرار الحرب الذي اتخذ وبردود الفعل والأحداث التي لحقت بهذا القرار، والملاحظة الأساسية برزت عبر صعوبة التأثير على الجغرافية السياسية للمنطقة عبر "إجراءات كبرى"، فخلق الشرق الأوسط الجديد كان مرهونا بآليات حاسمة استطاعت تحقيق مصالح للولايات المتحدة لكنها لم تستطع تثبيت استقرار هذه المصالح أو ضمان "تكوين سياسي" مختلف عما كانت عليه المنطقة قبل الحرب. والعقدة السورية كانت الأبرز فالإدارة السابقة حاولت تجاوز سورية بأساليب عنيفة، وسعت لاختراق دور دمشق في المنطقة إقليميا وعربيا ودوليا، لكن هذا الأمر لم يتجاوز حدود خلق اضطراب في العلاقات الإقليمية دون الوصول إلى واقع جديد، ولم يمض وقت حتى عاد التوازن السياسي من جديد.
بالنسبة لواشنطن فإن النتيجة الأخيرة كانت في تقرير بيكر - هاملتون عبر الحوار مع دمشق وصولا لدور إقليمي واضح المعالم، وهذا الدور الذي حاولت إدارة بوش صياغته وفرضه عبر مصطلح تغيير السلوك، عاد من جديد لمائدة التفاوض مع عاملين إضافيين:
الأول واقع إقليمي يدخل وضع العراق فيه كشرط أساسي في توزع الأدوار، فالمسألة لم تعد فقط في لبنان أو حتى في الساحة الفلسطينية عبر عملية التسوية، إنما هناك توازن مختلف وبالتالي شروط إقليمية تعتمدها دمشق وربما أنقرة وطهران، وهو ما يجعل واشنطن تنظر إلى دمشق من زاوية "تقاطع الملفات" مع إدراكها أن الحوار مع دمشق سيدخل في صلب التوازن الإقليمي لأنها "نافذة" على "الأزمات الثلاث" في العراق ولبنان وفلسطين.
الثاني أولوية الشرق الأوسط بالنسبة لأهداف أمريكية أصبحت موضع شك، فالانتقال من حرب إلى أخرى في الشرق الأوسط لم يعد يساعد على تحقيق مصالح أمريكية متنوعة، بل ربما على العكس فإنه يخلق بيئة مجاورة لمكان الحروب يصعب فيه التحرك، بعد أن كان التفكير أن هذه البيئة ستكون مناطق للدعم والمساندة بالنسبة للسياسة الأميركية، فبعد الحرب في أفغانستان ظهرت دائرة أخرى في باكستان، وبعد الحرب في العراق ظهر محيط جغرافي سواء في تركية أو سورية أو إيران غير مستعد للتعامل مع الواقع الإقليمي بنفس منطق ما قبل احتلال العراق.
الولايات المتحدة تتعامل مع سورية في تجديد العقوبات من موقع "جيوستراتيجي" في الشرق الأوسط، فالمسألة ليست في "صواريخ سكود" أو دعم المنظمات الإرهابية وتهديد امن الولايات المتحدة!! بل في رفض أن يصبح "الشرط الإقليمي" مهيمنا على حساب ما تريده الولايات المتحدة، والعقوبات تبدأ من سورية كنقطة التقاء لهذه الأزمات، وربما دفع هذا الأمر الرئيس أوباما لاستخدام لهجة وصفها البعض بالقاسية، لكنها في النهاية تعبر عن أزمة سياسية أميركية بامتياز في إدارة الأزمات ليس مع سورية بل مع "قوس من التوتر" من أفغانستان وصولا إلى فلسطين.