التحرك السياسي الأخير سواء في القمة الثلاثية في استنبول أو زيارة الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف توحي بقلق دولي جديد تجاه الشرق الأوسط، فرغم الموافقة العربية على مسألة المفاوضات غير المباشر، لكن هذا الأمر جاء في ذروة التصريحات بشأن سورية، ومع تأكيد عربي حول "عدم الثقة بإسرائيل"، بأن اتجاهات التسوية في الشرق الأوسط لا تعني في النهية سوى "حراك" سياسي له أهداف مختلفة وليس بالضرورة أن تكون اولوياتها الوصول لنتائج واضحة في مسألة السلام.
عمليا فإن اتجاهات السلام في الشرق الأوسط لم تكن نتيجة البحث عن "عدل" سياسي، فحتى قرارات "الشرعية الدولية" كانت نتيجة انكسار سياسي على الجانب العربي بدءا بقرار التقسيم وانتهاء بمؤتمر مدريد. وربما لهذا السبب لم تكن مقولة السلام تحمل دفعا اجتماعيا، فهي مأزومة بصور اللاجئين أو النازحين، أو حتى الانكسار السياسي، مثل زيارة السادات إلى القدس ثم اغتياله في ذكرى حرب تشرين.
والواضح أن الاتجاه نحو السلام لم يتبلور كتجاه عام في المنطقة إلا مع بداية انهيار الاتحاد السوفياتي ثم حرب تحرير الكويت، وظهرت مجموعة من الإجراءات السياسية كانت بحد ذاتها مؤشرا على الانهيار الاستراتيجي للمنطقة، وخروج العراق من المعادلة الإقليمية.
كما ان الانتقال نحو الحديث عن "السلام" تم تأسيسه على أنقاض انهيار أحلام التنمية والتغيير الاجتماعي و"حرب التحرير". وكان من المتوقع أن يؤدي الانهيار التراجيدي لأشكال السلام نتيجة الانتفاضة الثانية إلى بحث جديد، أو آفاق تستطيع اختراق هذه المعادلة الصعبة بين تحقيق السلام دون خلق مصالحة مع "الفكر التعصبي" للدولة العبرية.
وعلى امتداد العامين الأولين من الانتفاضة اصبحت ثقافتنا تواجه حالة فريدة نتيجة الوضع في الأراضي الفلسطينية، وبات واضحا أن الشكل الاجتماعي في فلسطين يمر بمرحلة تحول قادرة على خلق آفاق جديدة ليست بعيدة عن "السلام" ولكنها ترسمه وفق إطار جديد. وتجربة الانتفاضة التي انتقلت من المواجهة الاجتماعية "المدنية"، إلى حالة عسكرية هزت "إسرائيل" واجهت محنتها الأولى بعد أحداث 11 أيلول، لكن يبدو أن العمل العسكري اعتبر نفسه بمعزل عما جرى في الولايات المتحدة، مما أدى عمليا لقانون "الاستباحة" الذي مارسه شارون، واعتبر شرعيا لأنه جزء من مكافحة الحركات "الإرهابية" التي تعتمد أسلوب "القاعدة".
هذا الأسلوب يتم تكريسه داخل "الدوائر" السياسية وعلى الأخص بعد حرب 2008 - 2009 من خلال إعادة النظر إلى غزة كمنطقة معزولة عسكريا رغم كل التيارات المدنية في العالم التي تحاول كسر هذا المنطق، لكن مسألة المفاوضات غير المباشرة تأتي في نفس السياق الذي لا ينظر إلى غزة إلا من خلال صورة محاربة الإرهاب، فهو يحدث دون الاعتماد على كافة النتائج السياسية التي أحاطت مسألة الحرب على غزة.
"التسوية" عبر العودة إلى المفاوضات غير المباشرة لا تشكل فقط تكرارا لكل "دعوات السلام" التي انطلق سابقا بشكل مستقل عن ظروف الصراع العربي - الإسرائيلي، ولكنها أيضا تعيد التسووية إلى مربعها الأول كـ"إجراء سياسي"، يساعد على تحرك الأدوار الإقليمية دون أن يعني الوصول إلى أي نتاج في مسألة السلام أو عودة الحقوق للفلسطينيين.