عناوين كثيرة أنتجتها وقائع حرب تموز، فالمسألة لم تكن محسومة حتى بالنسبة لمن أدهشهم ما حدث أو إعادة صياغة الصراع من جديد، فالمسألة لم تكن حربا مع "إسرائيل" بالمعنى الاعتيادي، لأنها أظهرت خارطة للمقاومة أعقد مما بدت عليه "العمليات العسكرية"، فالحرب حملت بالفعل تحولا قاسيا بالنسبة للمنطقة، وبنفس قسوة الاعتداء الإسرائيلي على لبنان كان هناك شكلا سياسيا يملك نفس الصورة، ويضع مسألة "إسرائيل" في زاوية جديدة من المشهد العربي.
عمليا فإن حرب تموز كشفت الاحتمالات التي يمكن أن تحملها الخيارات الجديدة، وهو موضوع أقلق الجميع قبل اندلاع الحرب وعلى الأخص خلال الانتفاضة الثانية، لذلك فإن المواقف السياسية لم تكن وليدة لحظة الحرب بل أيضا نتيجة تتابع الحدث الذي تخلله أمرين: الأول أحداث أيلول التي برز فيها الخوف الحقيقي من "الولايات المتحدة" التي وضعت نفسها في موقف الحرب وصنفت العالم إلى أعداء وحلفاء، والثاني احتلال العراق حيث أصبح القادة العسكريون في البنتاغون شركاء في الموقف السياسي العربي وجزء من الحسابات التفصيلية في السياسات الداخلية لبعض الدول.
ويبدو أن خمس سنوات على تلك الحرب أنتجت مشهدا سياسيا يبدو فيه العداء لـ"إسرائيل" ملتبسا عند البعض، فالموضوع ليس مرتبطا بالقدرة العسكرية لحزب الله أو لأي طرف في ردع "العدو"، بل أيضا لما يمكن أن يحمله هذا الردع الجديد من ممكنات في التأثير على الجغرافية - السياسية لدول المنطقة، على الأخص ان التجربة تكررت بعد عامين في غزة، فظهرت حماس كنقطة صعبة لم يؤثر الحصار على قدرتها في فرض حالة خاصة في غزة، لكن هذا الواقع يحمل معه أمرين:
الأول أن التحكم بمسألة الردع التي أوجدتها حرب تموز لم تعد موضوعا محليا، فهو وفق السياسة الدولية مرتبط بقوى إقليمية وعلى رأسها إيران، وبالتالي فإن معادلة الصراع توسعت كثيرا، وأصبح ملف إيران النووي يمكن ان يؤثر على ما يحدث في جنوب لبنان، لكن هذا المنطق الدولي ليس بعيدا عن الواقع بحكم تشابك الملفات وعلى الأخص بعد احتلال العراق، وبطبع فإن "حرب الله" هو لبناني وحساباته تنطلق من هذا الاعتبار، ولكن في نفس الوقت فإن الصورة الأوسع تفترض تجريده من الدعم ومن عمقه الإقليمية وذلك من خلال الضغط على سورية وإيران، أو محاولة كسر الاتصال ما بين طهران ودمشق، لذلك فإن هناك أبعادا إقليمية أكبر يمكن أن تتدخل في طبيعة هذا الردع.
الثاني أن مسألة الردع التي ظهرت في لبنان تطلبت إجراءات دولية من بينها، وربما أهمها وجود اليونوفيل التي تفرض عمليا حصارا على لبنان من نوع مختلف، فهذا الوجود يمكن النظر إليه وفق سياق تجميد هذا الردع ووضع مجال سياسي خاص حددته قرارات مجلس الأمن، وتم إدخاله أيضا في الحسابات اللبنانية الداخلية التي تظهر دائما من خلال محاولات الحفاظ على التوافق، والحديث عن "سلاح المقاومة" كجزء من أي "صفقة" للتوافق.
لا شك أن خيار المقاومة عا د بقوة إلى واجهة السياسات القائمة بالشرق الأوسط، لكنها مقاومة مركبة إن صح التعبير، لأن عمقها يتجاوز الحدود الأساسية لعملية الصراع، وهو أمر لا يقلل من قيمتها كما أنه ليس مسألة "سيئة" بذاتها، إلا أنها تحتاج بنفس الوقت إلى قراءة مختلفة عن الظروف التي أحاطت بولادة المقاومة الفلسطينية على سبيل المثال، فاليوم لم تعد خيارات الصراع نفسها، وبعد حرب تموز فإن المقاومة بدأت تبحث عن نفسها في إطار مختلف، بينما تشتت الجبهات التقليدية القديمة، وربما أصبح من الصعب العودة إلى التكوين الذي ميز "حرب الوجود" التي شكلت بذاتها ثقافة داخل الدول التي هددتها "إسرائيل" منذ أن "ظهرت" كتحد لمجتمعات "المشرق العربي".