كيف يمكنها أن تبدأ أو تنتهي؟ ففي اللغة سلطة، وكل الحروف تأخذ معناها من الموقع الذي تقال منه ، وفي اللحظة التي نبدأ بها الصباح نستخدم العبارات المألوفة، لكنها تتحول من شخص لآخر، ويتبدل إيقاعها إذا قيلت في الشارع أو ظهرت في أروقة خاصة، رغم أنها تحمل نفس الكلمات، فهي لغة من الموقع الذي تصدر عنه وليس بما تقدمه حروفها من تصورات يمكن أن تنغرس في الذاكرة أو تغادرها إلى مكان مختلف.
هل نستطيع فهم "السلطة" عبر اللغة، أو تحليلها من خلال سلطتها؟! إنها مسألة تظهر في كل لحظة من الحياة، عندما لا نستطيع أن نجعل من كلماتنا حالة خاصة للمستمعين أو للأصدقاء، فنحاول التفكير ونكتشف أن المشكلة في الجهة التي تنتج هذه اللغة، حتى عندما تصبح الكلمات الإنكليزية جزءا من الجملة العربية المكسرة، فنحاول أن نوحي بالمعرفة، أو حتى نستمد شريعة القوة من المصدر الأجنبي الذي ينتج لنا كل يوم مجالا جديدا، لكن الموضوع يغيب أحيانا لأننا لا نستطيع الوصول إلى المصدر الأساسي لـ"سلطة اللغة".
مسألة الاتصال، أو اللغة" مرتبطة بكل ما توحيه "السلطة" من صورة إضافية، فنحن مولعون بالحديث عن "مصدر" حتى خارج قاعات التحرير في أجهزة الإعلام، فهناك راوي ننقل عنه ونحجب اسمه على طريقة الصوفيين الذين يستخدمون الـ"هو" ليصبح الغيب أكبر ملهم سلطوي، وهنا لا حاجة للبحث المطول عن مصادر الإلهام والقوة، بينما يبقى الشخص نفسه والحدث يسير على شاكلة واحدة لكنه يكتسب الكثير دون أن يسأل أي فرد من أين أتت قوة اللغة عندما يصبح المصدر مجهولا...
لماذا لا نعكس المسألة، فنحاول الحفر في تأثير "السلطة" على سلوك الأفراد، وبالتالي منحهم لغة مختلفة، تكتسب فيها الكلمات "الحزم" اللازم لتنفيذ ما يجب تنفيذه، ويصبح "تطعيم" الجمل بالكثير من المفردات الإنكليزية ضروريا حتى نزيد من حجم الغموض الذي يلف وجوهنا ونحن نتحدث من موقع يعلو المتلقي ولو قليلا...
يبدو هنا أن السلوك هو الذي يعيد إنتاج اللغة، فنحن نعيد صياغة حركاتنا ونظراتنا بما يتوافق والموقع الذي اكتسبناه، وربما بشكل ينسجم مع شعورنا بأننا متفوقون، ولولا هذا التفوق لما اكتسبنا تلك السلطة، ثم نبدأ بإعادة صياغة نفس قاموسنا اللغوي ولكن مع استخدام الكلمات في موقع جديد من جمل ستبدو عادية لو أننا كنا في زمن وظرف آخر.
ما الفائدة من "الثرثرة" عن اللغة خارج "السلطة" الممنوحة لنا معرفيا أو اجتماعيا؟ وما الفائدة من معالجة مشاكل لغوية - اجتماعية طالما أننا لا نستطيع استقراء حقيقة الاتصال أو التواصل بنفس اللغة ولكن من موقعين مختلفين، فمنذ ان أصبح المرئي والمسموع والمكتوب سمة عالمية لم يعد لـ"الثقة" أي دور، فكل الكلمات ستعود إلى موقع "صاحبها" وليس لقدرتها على الإقناع، لكن وحدهم الفنانون قادرون على كسر القاعدة لأن لغتهم لا تبحث عن الجمهور بل هو يبحث عنها، ولا تظهر السلطة إلا في نوعية الجمال الذي يمكن أن يجعل الكلمات على شاكلة رقصة معاصرة... وحدهم الفنانون قادرون على تجاوز مأزق اللغة....