المتفائلون من زيارة العاهل السعودي إلى بيروت ودمشق كانوا يتحدثون عن خطوات "المصالحة العربية"، بينما ظهر المحللون اللبنانيون على الفضائيات وهم يحملون "يقينا سياسيا" جديدا" حول أبعاد عربية مختلفة "تنهي" الفرص السورية نحو اتخاذ مواقف جدية من الأزمات وعلى الأخص الموضوع الإيراني.
بالطبع لن تكون تداعيات "الاتهام" الموجه لحزب الله بحجم ما حدث مع سورية بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، فهناك أمرين أساسيين: الأول أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تحمل معها "مشروعا انقلابيا" يشابه ما طرحه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، وإدارة أوباما تسعى إلى التحكم بشكل أفضل بمقاصل الأزمات الحالية، بينما تبدو تصوراتها المستقبلية خاضعة لتحولات السياسة داخل المؤسسات الأمريكية نفسها.
أما العامل الثاني فهي نوعية التجربة مع المحكمة الدولية، فالتحقيق الدولي انطلق أساسا من فرضية لا تتعلق بـ"المجرم" بل بقدرة المحكمة على تغيير المعادلة الإقليمية، وهي استطاعت عمليا التأثير على مواقف التيارات اللبنانية واستقطبت أيضا أطرافا من النظام العربي، لكن وظيفة المحكمة والتحقيق في عملية التغيير استنفذت أغراضها، ولم يعد الواقع الإقليمي الحالي قابلا للتأثر لمجرد القرار الظني، وما يحدث اليوم يبدو تحريكا سياسيا له أهداف أقل بكثير مما كان يسعى إليه "ديتليف ميليس" والحملة الإعلامية التي رافقته.
عمليا فإن الحراك السعودي يعبر عن الظرف الدولي الجديد تجاه الشرق الأوسط عموما، وهناك ثلاث مؤشرات أساسية يمكن التعامل معها بغض النظر عن نجاح القمة الثلاثية في بيروت أو ما يمكن أي ينتج عنها مستقبلا:
 هناك سياق سياسي يجعل الحديث عن المصالحة العربية متزامنا مع "الأجندة الأمريكية" وخصوصا ما يرتبط منها بالمسألة الإيرانية، فالفراغ السياسي الذي تملؤه إيران يدفع للحديث عن مصالحة عربية لدفع الدور الإيراني بعيدا عن المساحة العربية المحيطة بـ"إسرائيل"، وبهذه الصورة فإن المحللين الذين تحدثوا عن الدور السعودي بعملية المصالحة محقون، ولكن هذه المصالحة مازالت بعيدة عن نقطة الصراع الأساسية في فلسطين وموجه عمليا نحو "عدو افتراضي"، وبالطبع فليس مصادفة الحديث عن المحكمة في ظل تحرك دولي لمحاصرة إيران، وليس مصادفة أيضا أن تظهر التحليلات عن المصالحة العربية وتبدأ في لبنان حيث تتشابك العوامل الإقليمية والدولية.
 المؤشر الثاني يرتبط بـ"المفصل السوري" فالمتحدث باسم الخارجية الأمريكية ليس "غبيا" أو "مستهترا" أو "يحاول دس السم في العسل"، وهي كلمات استخدمتها صحيفة النهار، عندما طلب من دمشق الاستماع إلى ما سيقوله الملك السعودي. وعشية الزيارة كان الرئيس أواباما يشدد على موضوع حزب الله من جديد، وما يمكن قراءته هو طبيعة "المفصل السوري" الذي يقلق البعض في نوعية التعامل معه، فهناك قناعة على ما يبدو في عدم القدرة على كسر المعادلة التي تربط سورية بحلفائها التقليديين ابتداء من طهران ومرورا بحزب الله وانتهاء بحماس، لكن من الممكن إرباك هذا التحالف بشكل دائم، أو إدخاله باختبارات يمكن أن تؤدي في النهاية إلى تفككه التدريجي.
الحراك السعودي مهم جدا لكنه لا يرتبط بالمصالحة العربية، فهذه المصالحة لا تملك "الأفق" الاستراتيجي حتى اللحظة، ويكفي الاطلاع على التحليلات في الصحف المصرية بعد قمة شرم الشيخ بين الرئيس المصر والعاهل السعودي حتى ندرك أن هناك افتراق واضح لا يمكن التعامل معه بحراك سياسي سعودي، ولكن أهمية ما تقوم به الرياض اليوم يدخل في إطار العودة إلى القدرة على استيعاب الأزمات بالتعاون مع دمشق، ولكن دون كسر المعادلة التي تجعل "الردع الإقليمي" الحالي يقلق "إسرائيل".
المحكمة والمصالحة لا يظهران على الساحة الإقليمية بالمصادفة، والأجندة الأمريكية تجاه إيران ربما تكون التطور الأكثر خطورة الذي يدفع المنطقة كلها نحو التحرك.